عائشة صبري – صحفية سورية
“تعا ننسى تعا ننسى أيام الي راحت أيام العذاب المرّة وسنين الي ضاعت”.. أردِّد كلمات أغنية ملحم بركات، والتي يقصد بها نسيان الظُّلم بين محبوبين اثنين وكلّ من ظلمهما، إلى أن يختم بجملة: “يداوينا النسيان.. ونعيش بأمان”.
وأتساءل: إن كان النسيان لجروح نفسية وحقوق شخصية سببها ظلمٌ من قريب أو شريك لك، أو بعيد عنك لا تربطك فيه علاقة لكنَّه تسبّب بإيذاء لك (…) إن كانت تلك الأمور نسيانها صعب!، فكيف بإمكانك أن تنسى تدمير بلد بأكمله عبر مجموعة من الجرائم ضد الإنسانية لها أول ما لها آخر ولم تتوقف بعد!
في دعوة تركية جديدة إلى المصالحة مع نظام الأسد ونسيان جرائمه التي ما يزال يرتكبها بحقّ الشعب السوري، واختزالها في لفظ “كراهية”، حسبما قال وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان (03 /01/ 2024): “في بيئة يسودها الصمت، يمكن نسيان الكراهية لدى الجانبين (النظام والمعارضة)، ويمكن أن يظهر موقف سياسي تجاه السلام وبناء المستقبل في سوريا “. يُقابلها دعوات سورية، باعتقادي، ظاهرها البحث عن حلول سياسية وباطنها استسلام يؤدي إلى مشاركة الحكم مع بشار الأسد، بحجة تطبيق القرار الدولي 2254.
ومنهم زاهر بعدراني، رئيس تيار المستقبل السوري، الذي طرح في مقاله “عاشر المستحيلات” تشكيل (lobbies) لوبي من المعارضة يمدُّ يده للوبي من النظام، يعمل كلٌّ منهما على تعبيد فتح طريق وطني سوري – سوري، فيما أسماه “التفكير خارج الصندوق”، وفي ذات السياق طرح في مقالة أخرى خيار “تخفيف المعارضة السورية العداء مع إيران“.
ما يُعيد إلى الأذهان ما طرحه عبيدة نحاس، رئيس حركة التجديد الوطني، لكنّه أسمّاه “التفكير داخل الصندوق“، في مقاله عن الوضع السوري نهاية العام 2022، معتبراً أنَّ الحلَّ يكمن في إطاره السوري الجامع (معارضة ونظام) مع تراجع الاهتمام الخارجي بإيجاد حلٍّ سياسي دولي في سوريا.
وهو ما اعتبره سوريون آنذاك صدىً للدعوة التركية لمصالحة المعارضة مع النظام حين قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو (11/08/2022): “علينا أن نصالح المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما، وإلا فلن يكون هناك سلام دائم”. وكان الردّ الشعبي الغاضب: “لن نصالح”.
ماذا ننسى؟
أننسى جرائم حافظ الأسد أم ابنه بشار ومن ساندهم! إذا نسينا الضحايا الذين قتلهم النظام البعثي منذ عام 1963 ذبحاً وحرقاً وسحلاً وخنقاً ودفناً وقنصاً وجوعاً في منازلهم ورمياً في الحفر، وتعذيباً في سجونه لينتهوا جثة محروقة أو مومياء على جبينها رقم مثلما ظهر في صور قيصر؟ إلى ما ذلك من أنواع الموت في البحر أو الغابات أو على الحدود قبل الوصول إلى النجاة، ومن ينجو يموت بالسكتات القلبية قهراً.
فهل ننسى مئات آلاف الإعاقات بأنواعها والأمراض التي تسبّب بها المجرمون!، أم ننسى دموع الوالدين حرقةً على ولدهم أهو حيٌّ أم ميتٌ في السجن منذ 13 عاماً؟، أم دموع الأيتام والأرامل! كيف ننسى آهات الذل وكسرات قلوب السوريين الموزّعين في خيام ممزقة وفي شتى أصقاع العالم، وما إلى ذلك من مآسٍ مريرة وأوبئة اجتماعية مقيتة!
هل إن قبلنا مد يدنا إلى المجرم، هل يقبل هو بالحل الحقيقي؟
إنَّ الطروحات المثالية بعيدة عن الواقع، وفرضية تغيير شكل نظام الحكم مع بقاء الحاكم التي يعزف عليها البعض، هي تمييع لقضية الشعب السوري لتحويلها إلى صراع بين أطراف لا فرق بينهم! فالنظام الاستبدادي لا يقبل إلا بالحلّ على مقاسه، فمَنْ عقيدته الهدم كيف سيقبل بالبناء!
وأعتقد أنَّ فشل جلسات اللجنة الدستورية منذ تشكيلها في أيلول 2019 للتفاهم بين النظام والمعارضة بذريعة تطبيق القرار 2254، والتي انبثقت عن مؤتمر سوتشي الذي أنهى المفاوضات التي بدأت في جنيف نهاية حزيران 2012، فضلاً عن اعتراف رئيس وفد المعارضة أحمد طعمة “بالفشل في إحراز أي تقدم جديد خاصة ملف المعتقلين” في الجولة 21 من محادثات أستانا مؤخراً، أكبر دليل على تعنّت النظام وأنَّ الطروحات المثالية مضيعة للوقت وإطالة في أمد الصراع.
ولا ننسى أنَّ الأسد رهين بيد روسيا التي تجنّد السوريين في حربها مع أوكرانيا ووقعت عقوداً سيطرت من خلالها على الساحل السوري منها عقد استثمار مرفأ طرطوس عام 2019 لمدة 49 عاماً، وإيران التي توسّع نفوذها خاصةً ما كشفته مؤخراً وثائق الملفات المسربة، من وضع إيران يدها على عدد كبير من الاستثمارات السيادية السورية، وتجنيس آلاف الإيرانيين في ظلّ الديون الإيرانية المتراكمة، بالتالي هيمنة اقتصادية وسياسية وعسكرية وأمنية إيرانية داخل مفاصل صنع القرار في سوريا.
كيف ننسى؟
كما يقال إنَّ المسامحة تكون بعد أخذ الحقّ وليست بديلاً عنه، بالتالي الشعب السوري بعدما يأخذ حقّه، ويُحاسَب مرتكبو الجرائم على جرائمهم، وانتخاب حكومة وطنية مستقلة، هناك يكون فرصة للنسيان، لكن مصالحة المستبدين غير مجدية، فالطرح المثالي يُعزّز قناعتهم بأنَّ منهجية القمع لشعوبهم كانت عين الصواب، وبأنَّ من عارضهم هم المخطئون فعادوا إليهم. مثلما قال بشار الأسد في مقابلته مع قناة سكاي نيوز: “لو عاد بنا الزمن إلى 2011 سنقوم بذات الشيء (القمع)”.
وهذا ما أكدته مؤخراً جميلة شربتجي عضو المحكمة الدستورية العليا في نظام الأسد، على أنَّ الشعب هو المسؤول عن الدولة، فلا حقوق للمواطن ولا واجبات على الدولة، وفق قولها: “الشعب الراقي سينتج عنه دولة متطورة والشعب الجاهل سينتج عنه دولة متخلفة (…) ما هو حق للدولة هو واجب على المواطن، وما هو واجب على المواطن هو حق للدولة”.
أيضاً الفنانون المؤيدون للنظام يعزفون على وتر استقطاب الفنانين المعارضين ونسيان الموقف السياسي لكلا الطرفين والعمل سويةً. كما يدعو مؤيدو محور المقاومة، السوريين إلى نسيان جرائم هذا المحور الإيراني في سوريا، والتصفيق لـ”بطولاتهم” في غزة.
ولعلّ أبرزهم الصحفي الأردني ياسر أبو هلالة، الذي دعا السوريين إلى تجاوز الجراح في حرب غزة، والوحدة لمواجهة العدو رقم 1 “الصهيونية”، وهو عندما تعرّض لضرب من قبل قوات مكافحة الشغب الأردني عام 2009 طالب بمحاكمة المعتدين عليه، فكيف يطلب من غيره نسيان الجرائم التي لا تسقط بالتقادم!
ما ننسى لا ما ننسى
يحاول ناشطون سوريون التذكير بجرائم الأسد عبر وسوم مثل: “دماء منسية، كي لا ننسى” يرفقونها بتاريخ المجازر ومعلومات توثيقية عنها. ولا يسعني إلا أن أستذكر ما غنّاه سميح شقير عن القضية الفلسطينية في التسعينيات: “ما ننسى لا ما ننسى جدودنا ووقفات العزّ يوم الكرامة رخصوا رواحهم (…) ويا يُمّا هزّي سرير لصغير وقولي له: يا يمّا كل اللي عم بيصير تا لما يبقى كبير.. ما ينسى لا ما ينسى لا لا لا”.