محمود علوش-الجزيرة
كانت للحرب التي أطلقتها روسيا على أوكرانيا قبل عام تداعيات كبيرة على العالم؛ فلقد أعادت إحياء حقبة الحرب الباردة، وأحدثت تحوّلات عميقة على البيئة الأمنية الأوروبية، ومنحت زخمًا قويًّا لعصر التنافس الجيوسياسي العالمي الجديد، كما أربكت تجارة الطاقة العالمية، وعمّقت الاضطرابات التي يواجهها الاقتصاد العالمي.
ومع ذلك، فإن التأثيرات العميقة للصراع لم تقتصر على علاقات روسيا بالغرب، بل طالت أيضا مناطق سعت للوقوف على الحياد كالشرق الأوسط، وأعادت تشكيل الجغرافيا السياسية فيه. مع استثناء التداعيات السلبية للحرب على اقتصادات المنطقة -خاصة الضعيفة منها- فإن الصراع شكّل فرصة لقوى فاعلة في الشرق الأوسط -كتركيا والخليج- من أجل تعزيز حضورها الإقليمي وتعظيم أهميتها في السياسات الدولية وتنويع شراكاتها الخارجية وتأكيد هامش الاستقلالية لديها في السياسات الخارجية والنفطية، في حين جلب ذلك فرصا ومشاكل لقوى أخرى كإيران وإسرائيل، كما أفسح المجال أمام روسيا والصين لزيادة دورهما في الشرق الأوسط، وخلق ديناميكية جديدة في بعض القضايا الإقليمية البارزة.
قبل الحرب، كان الشرق الأوسط يعيش بالفعل وضعا جديدا منذ عامين بفعل خفض التصعيد الإقليمي الذي أحدث تحولا في بعض السياقات الإقليمية كالعلاقات التركية العربية التي أعيد إصلاحها، والتوتر السعودي الإيراني الذي هدأ بشكل معقول بعد شروع البلدين في حوار ثنائي برعاية عراقية، فضلا عن تحولات السياسة الأميركية في المنطقة بعد وصول الرئيس جو بايدن إلى السلطة واستئناف المفاوضات مع إيران لإعادة إحياء الاتفاق النووي وتأزم العلاقات الأميركية الخليجية.
في الوقت الذي لم تؤثر فيه الحرب الروسية الأوكرانية على مسار خفض التصعيد الإقليمي، فإن تداعياتها كانت بارزة بشكل واضح على السياقات الأخرى، من سوريا ومفاوضات النووي الإيراني إلى إعادة تشكيل علاقات تركيا والخليج مع الغرب وتوتر العلاقات الإيرانية-الغربية والإسرائيلية-الروسية.
تُفسر التداعيات المتباينة للحرب على القوى الإقليمية وعلاقاتها بالخارج دور نهج التوازن الذي تبنته تركيا ودول الخليج في الحد من ارتدادات الصراع على مصالحها المتشابكة بين موسكو والغرب، بينما عمل انجراف إيران نحو تعميق شراكتها مع روسيا على تأزيم علاقاتها مع الغرب وتبديد فرص إعادة إحياء الاتفاق النووي.
أدت الحرب إلى إعادة تشكيل علاقات القوى الإقليمية مع الخارج وإحداث تحوّلات على نفوذ القوى الكبرى في الشرق الأوسط. يبرز التحول الأكبر في هذا السياق في منطقة الخليج التي تضاعفت أهميتها في نظام الطاقة العالمي، وعززت استقلاليتها في السياسات الخارجية والنفطية عن الولايات المتحدة. دفعت الحاجة إلى النفط الرئيس الأميركي جو بايدن إلى زيارة الرياض في محاولة لتحسين العلاقة مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
مع ذلك، شكلت الحرب فرصة للخليج للمضي قدما في إستراتيجية تنويع شراكاته الخارجية مع القوى الكبرى من منظور المصالح الوطنية. إلى جانب تمسك الرياض بالشراكة النفطية مع موسكو، برزت الصين فاعلا دوليا جديدا في المنطقة في محاولة منها لملء الفراغ الناجم عن تراجع الشراكة الخليجية الأميركية. استطاعت دول الخليج خلق هوية جيوسياسية جديدة لها وتعزيز إستراتيجية التحوط من تراجع الدور الأميركي في المنطقة، فضلا عن تحويل الحرب إلى فرصة لإعادة تشكيل الشراكة مع الولايات المتحدة على قواعد جديدة تقوم على المنافع المتبادلة.
مع أنه في المستقبل المنظور لا يُمكن للشراكة مع موسكو وبكين أن تملأ الفراغ في تراجع الارتباط الأمني للولايات المتحدة بالخليج، فإن واشنطن أصبحت أكثر إدراكا من أي وقت مضى للحاجة إلى تصحيح الشراكة مع الخليج.
كانت الحرب تحديًا على وجه الخصوص للدول الأكثر تأثّرا بها بحكم الجغرافيا والمصالح المتداخلة بين موسكو والغرب. تركيا واحدة من هذه الدول وقدّمت نموذجا استثنائيا في إدارة موقفها من الحرب يرتكز بشكل أساسي على نهج التوازن.
في الوقت الذي عارضت فيه أنقرة الحرب وواصلت تعميق شراكتها العسكرية مع كييف وأغلقت البحر الأسود أمام السفن الحربية الروسية، فإنها رفضت المشاركة في العقوبات الغربية على موسكو وسعت للعب دور الوساطة بين موسكو وكييف، ورعت اتفاقية لتصدير الحبوب الأوكرانية، كما عمقت علاقاتها التجارية والاقتصادية مع روسيا بعد الحرب.
بقدر ما مكّن نهج التوازن أنقرة من الحد من تبعات الحرب عليها وعلى مصالحها مع روسيا والغرب، فإنه ساعدها أيضا في تعظيم دورها في نظام الطاقة العالمي الجديد، ورفع قيمتها في التنافس الجيوسياسي العالمي، وفرض قواعد جديدة لشراكتها مع الغرب.
على عكس تركيا والخليج، فإن عدم اتباع إيران نهجا متوازنا مماثلا في الصراع خلق لها عقبات كبيرة في سبيل الخروج من عزلتها الغربية رغم أنه خلق لها فرصا لتقوية موقفها في الشراكة مع روسيا.
في المحصلة، فإن التحولات التي أفرزتها الحرب على علاقات القوى الفاعلة في المنطقة مع الخارج أسهمت في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية.
بالنظر إلى الدور المتنامي لروسيا في الشرق الأوسط منذ تدخلها العسكري في سوريا منتصف العقد الماضي، فإن حرب أوكرانيا والعزلة الغربية فرضتا عليها تحديات كبيرة للحفاظ على دورها في المنطقة، لا سيما سوريا.
ويُمكن حصر تداعيات الحرب على سوريا والسياسات الإقليمية المرتبطة بها في 4 مُتغيرات رئيسية:
- تراجع الوجود العسكري الروسي في سوريا وما شكله من فرصة لإيران لتعزيز حضورها في هذا البلد.
- اضطراب العلاقات الروسية الإسرائيلية الذي يعمل بشكل متزايد على تقييد قدرة إسرائيل على مواصلة جهودها لاستهداف الوجود العسكري الإيراني في سوريا.
- تحول سياسة تركيا تجاه دمشق نتيجة لتنامي شراكتها مع روسيا.
- الاتجاه العربي المتزايد لإعادة العلاقات مع نظام الرئيس بشار الأسد.
في حين أن الحرب الروسية الأوكرانية عزّزت مسارات إقليمية كانت قائمة بالفعل في فترة ما قبل الحرب، فإن تأثيرها العميق يبرز بشكل أكبر على علاقات الخليج بالولايات المتحدة وعلاقات إيران بالغرب وروسيا.
أخيرا، بقدر ما منحت الحرب دول الشرق الأوسط فرصة لتعزيز دورها في الجغرافيا السياسية الإقليمية والعالمية، فإنها جلبت لها تحديات أخرى تتركز في قدرتها على مواصلة النأي بنفسها عن التنافس العالمي المتزايد بين القوى الكبرى، والحد من مخاطر تصاعد الاضطرابات الإقليمية في ضوء تراجع فرص إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني وتزايد التوتر بين إسرائيل وإيران.