عمار مصارع-معهد واشنطن
بالنظر إلى الانهيار الذي تمر به الدولة اللبنانية، وتطبيع الدول العربية مع الأسد، وتشرذم المعارضة السورية، يمكن للولايات المتحدة أن تتدخل للعب دور مفصلي في حماية اللاجئين السوريين الذين يواجهون الاضطهاد.
مباشرة، بعد الإعلان عن مقتل منسق تنظيم القوات اللبنانية في منطقة جبيل باسكال سليمان في شهر نيسان/أبريل، اجتاحت المناطق اللبنانية المسيحية موجة من التهديدات، استهدفت اللاجئين السوريين . جاءت هذه التهديدات من مسؤولين لبنانيين وسياسيين ومدنيين وُصفوا “بالعناصر الحزبية المنفلتة”. علاوة على ذلك، كانت هناك حالات تعرض فيها لاجئين سوريين للضرب والطرد من منازلهم ومحلاتهم التجارية، ووصل الأمر الى حد خطف بعضهم، كما حدث حين اعترض مجهولون سيارة أجرة تقل سوريين اثنين على طريق في البقاع الشمالي، وقاموا بخطفهما إلى جهة مجهولة.
لا يعد اضطهاد السكان السوريين في لبنان كونه مجرد اقتصاص محلي، بل تعدى الأمر إلى حد تبني المسؤولين اللبنانيين خطابا يحض على الكراهية ويبث المشاعر المعادية للسوريين، إذ أكد وزير الصناعة في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية الأرمني جورج بوشكيان بعد الجريمة، أن “.. النازحين السوريين بدل عودتهم إلى المناطق الآمنة في بلدهم، فإنهم يفتعلون المشاكل في لبنان.. ويقومون بتنفيذ جرائم الخطف والسرقة والتهريب وتعاطي الممنوعات وغيرها”.
وبعد فترة وجيزة من تصريح بوشكيان، وجهت الغالبية السكانية الأرمنية في منطقة برج حمود إنذارات للسوريين القاطنين في المنطقة عبر مكبرات الصوت، تطلب منهم إخلاء المنازل والمحلات التجارية، وقالوا في بيان تناقلته وسائل الإعلام: “جئنا نُحذّر كل سوري في منطقة برج حمود وجوارها، بوجوب مغادرة المنطقة فوراً قبل نهار الجمعة الواقع في 12 نيسان/أبريل 2024 كأقصى مهلة وعدم العودة إليها نهائياً”، مؤكدين أن الأمور ستؤول إلى” غضب وعنف وتفلّت أمني” و” خاصةً في ظل غياب الدولة التام وعدم ممارسة الأجهزة الأمنيّة والبلديات مهامها وواجباتها بحماية المواطنين اللبنانيين” حسب بيانهم الذي وزعوه.
إلى جانب نشر خطاب الكراهية المعادي للسوريين، ساهمت التصريحات التي أدلى بها وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي ، والتي أفشى من خلالها بمعلومات حساسة حول التحقيقات الخاصة بقضية مقتل سليمان، في “صب الزيت على النار” في بلد يعيش أهله” على سطح صفيح ساخن”، ينذر بالانفجار بين لحظة وأخرى بين طوائفه المتناحرة. علاوة على ذلك، صار الموقف العدائي للطوائف في لبنان أكثر خطورة خاصة في ظل هيمنة تنظيم حزب الله المصنف أمريكيا بالإرهابي، حيث أدت سيطرة الحزب على لبنان إلى تعطيل مؤسسات الدولة، وتركت الحكومة غير قادرة على قمع العنف بشكل فعال.
تضخيم الأزمة
يعرف المتابعون لوضع اللاجئين السوريين في لبنان، أن السلطات اللبنانية لم تنشئ أبدًا نظامًا لاستيعاب اللاجئين، فمنذ وصول أول موجة منهم الى لبنان في عام 2011، واجه اللاجئون السوريون – الذين فروا من العنف والنهب والتدمير الذي مارسه نظام الأسد وحلفائه في حزب الله – الاستغلال والتهميش.
علاوة على ذلك، هناك تناقض بين نهج “الفوضى المتعمدة” الذي تعتمده الحكومة اللبنانية وبين المقاربات التي تتبعها حكومات دول مثل تركيا والأردن في ما يتعلق باللاجئين السوريين، حيث قاموا بالتنسيق مع الأمم المتحدة ودول أخرى لجمع البيانات بطريقة منهجية.
وفى السياق ذاته، أغتنم المسؤولون اللبنانيون فرصة الفوضى وقاموا بتضخيم عدد السكان السوريين في لبنان بشكل متعمد في محاولة لزرع الخوف بين اللبنانيين. وفي حين تقدر منظمات الأمم المتحدة، والمنظمات المدنية المعنية أعداد اللاجئين السوريين في لبنان بأقل من تسعمائة ألف لاجئ، فإن المسؤولين اللبنانيين يقدمون أرقاما مضاعفة تتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين. كما تلعب وسائل الإعلام اللبنانية المختلفة دورا في بث الفوضى، حيث تسارع إلى تسليط الضوء على التناقض بين التقديرات السكانية المختلفة. ومن ناحية أخرى، هناك منافذ إعلامية أخرى تقوم بتسليط الضوء على مسألة غياب الشفافية في عملية توزيع المساعدات، مما يزيد من تآكل ثقة الجمهور في منظمات الإغاثة الدولية.
إضافة الى ذلك، يتطلب التصدي الحقيقي للتحديات التي يواجها اللاجئون السوريون في لبنان، قيام المسؤولون اللبنانيون بتوفير بيانات ديموغرافية صادقة -تعكس حسن النوايا- حول وجود اللاجئين السوريين في لبنان ومواقعهم بهدف تسهيل تقديم الدعم لهم بشكل أفضل.
علاوة على ذلك، حاولت بعض القوى السياسية في لبنان استغلال قضية اللاجئين لدعم وتوسيع قواعدهم الشعبية، أو لابتزاز أوروبا والعالم، بالمزيد من الأموال، التي تذهب – غالبا – إلى غير غاياتها التي خُصصت من أجلها. ولعل خطاب جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر، المشمول بالعقوبات الأمريكية، وحليف حزب الله المصنف كتنظيم إرهابي، خير شاهد على ذلك، إذ طالب في منشور على منصة (أكس)، بطرد آلاف السوريين من لبنان بهدف تخويف أوروبا وابتزازها.
التعميم المضلل
اعتمد الخطاب اللبناني الرسمي عامة، وخطاب القوى السياسية، على التعميم المضلل في تصنيف اللاجئين السوريين، وعدم التمييز بين اللاجئ الهارب من بطش النظام، والآخر الداخل بحثاً عن عمل دون التزام بقوانين العمل اللبنانية، وهؤلاء يتنقلون بين البلدين (سوريا ولبنان) بسهولة ، بعضهم دخل بتسهيل من حزب الله، والقوى التي تتظلل بعباءة النظام السوري ، والتي تستخدمهم لتحقيق أهداف محلية، علاوة على تسهيل النظام السوري لحركتهم، بقصد الاستفادة من البرامج الدولية للاجئين السوريين، وهم في غالبيتهم، من يقف وراء افتعال حالات الشغب، والحوادث الأمنية، وبعضهم يحمل السلاح.
وأخطر ما في هذا التعميم في الخطاب الرسمي اللبناني هو انسحابه على السجناء السوريين في السجون اللبنانية، واعتبارهم كتلة واحدة، دون تمييز بين السجين الجنائي، أو السجين السياسي، الذي اعتقلته السلطات اللبنانية تنفيذاً لمذكرات توقيف سورية، مثلما حدث حين “أصدرت المديرية العامة للأمن العام اللبناني، قرارًا بترحيل ستة لاجئين سوريين على الرغم من المخاطر الجسيمة التي تنتظرهم في سوريا”، مما أدى لمحاولة البعض منهم الانتحار، خوفا مما ينتظره من عذاب في حال تسليمه للسلطات السورية، مثلما حدث حين “حاول أربعة سجناء سوريين -بينهم شقيقان- الانتحار عبر شنق أنفسهم بواسطة أغطية داخل سجن “رومية” المركزي الأكبر في لبنان احتجاجا على ترحيل سجين (أخ الشقيقين) إلى سوريا، من قبل الأمن العام اللبناني”.
ومع ذلك، يواجه اللاجئون السوريون في جميع أنحاء لبنان صعوبات كبيرة حيث وصل الأمر – أيضاً – ببعض الوسائل الإعلامية الى بث إعلان تلفزيوني تحريضي ضد اللاجئين السوريين، مدعية أنهم يسمون أطفالهم باسم “بشار” في إشارة للرئيس السوري، و”أسماء” إن كان المولود بنتا، في إشارة الى اسم زوجة رئيس النظام السوري، وذلك لتسوق فكرة أن كل اللاجئين في لبنان من موالين للنظام.
يقول السوري أبو محمد (50 عاماً)، وهو أب لـ 4 أولاد، إنه وعائلته لم يخرجوا من باب الغرفة، التي يسكنون فيها في إحدى قرى جبل لبنان، خشية أن يتعرضوا للضرب أو للترحيل من البلدة، خاصة وأنهم لا يعرفون أي مكان آخر يتوجهون إليه. مستهجناً «كيف يتحمل آلاف الأبرياء مسؤولية ما يقوم به بعض الأشرار فقط لأنهم يحملون نفس الجنسية».
بدورها تتساءل ريم السورية في حديث مع موقع “الحرة”، “أين حقوق الإنسان مما يحصل؟ لماذا تم تشتيت العائلات؟ لماذا حرم أطفالي من رؤية والدهم؟ يريدون إلصاق تهمة الإجرام بكل السوريين ومعاملتهم بدونية وعنصرية وضربهم بوحشية، للأسف لا عدالة على هذه الأرض! حرمنا من الوطن والمأوى، ألا ليت الجميع يعلم أن القوة لا تدوم لأحد“.
في السياق نفسه، اعتبرت الصحافية اللبنانية ديانا مقلد في نص لها على منصة إكس “أن هناك صمت مدوي تجاه حملة الترهيب والكراهية التي تحصل في الشارع اللبناني ضد اللاجئين السوريين، نتيجة تساهل السلطة السياسية اللبنانية المخزي تجاه ممارسات عنيفة، ودعوات العقاب الجماعي الحاصلة، مشيرة إلى ” أن الجميع لا يثق بالسردية الأمنية التي أعقبت جريمة قتل باسكال سليمان”، ومتسائلة عن “غياب الدولة أثناء حدوث تلك الهجمات. وعن خطاب وزير الداخلية بسام مولوي والذي سبب موجة استهجان داخلي تشير مقلد إلى “أن البطولات العنصرية الكلامية لن تجلب حلاً الى لبنان، بل مزيداً من الاحتقان والمعاناة والدم”.
فخ حزب الله
وهناك أيضاً شكوك بشأن ضلوع حزب الله في إثارة هذه التوترات بشكل ضمني، حيث يرى لبنانيون معارضون لحزب الله على أن حرب غزة كشفت هشاشة وضعف هذا التنظيم المصنف إرهابيا لدى الولايات المتحدة ودول عربية وأوروبية، حيث تجلى هذا الضعف في اغتيال محمد إبراهيم سرور، وهو صرّاف مهم في حزب الله، في منطقة بيت مري في بيروت. ويعتقد على نطاق واسع أن إسرائيل هي المسؤولة عن مقتله، وأن قدرة إسرائيل على اغتيال أحد كبار الممولين في قلب أراضي حزب الله تعتبر دليلا واضحا على ضعفه.
علاوة على ذلك، دفعت الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها لبنان علاوة على صراعها مع إسرائيل، حزب الله لافتعال مشاكل لتفادى الغضب الشعبي، ويبدو أن اللاجئين السوريين قد شكلوا كبش فداء مفيد. ووفقا لبعض المراقبين، نجح حزب الله في توفير الخدمات اللوجستية “للعصابات” السورية اللبنانية، وهو ما مكنها من الاتجار بالمخدرات، وتنفيذ بعض الاغتيالات، وآخرها اغتيال باسكال سليمان، ونقل جثته الى سورية، عبر مناطق يسيطر عليها الحزب في سورية ولبنان. وفى حين ظل حزب الله على الحياد في موضوع اللاجئين، إلا أنه دعم بشكل مستتر حركات الاحتجاج على اللاجئين في المناطق المسيحية، مستعينا بخطاب إعلامي مسيحي تأجيجي، وبسوء إدارة الأحزاب المسيحية، وصمت المجتمعين العربي والدولي لتغذية المشاعر المعادية للسوريين وتحويل الانتباه عن فشل الحزب.
وبالنظر إلى الانهيار الذي تمر به الدولة اللبنانية، وتطبيع الدول العربية مع الأسد، وتشرذم المعارضة السورية، يمكن للولايات المتحدة أن تتدخل للعب دور مفصلي في حماية اللاجئين السوريين الذين يواجهون الاضطهاد. وفى هذا الصدد، تمتلك الولايات المتحدة العديد من أدوات الضغط التي يمكن توظيفها لإحداث تغيير، فهي أكبر داعم لمساعدة اللاجئين السوريين، حيث تجاوزت المساعدات المالية والمادية التي تقدمها خمسة عشر مليار دولار أمريكي. وبالتالي، يمكن للحكومة الأمريكية أن تمارس حقها في مراقبة كيفية إنفاق المساعدات والتأكد من وصولها إلى مستحقيها.
هناك أيضا عدة طرق يمكن للولايات المتحدة من خلالها المساعدة في قضية اللاجئين، حيث تقدم الولايات المتحدة دعمًا كبيرًا للقوات المسلحة اللبنانية، التي أجبرت اللاجئين السوريين على العودة إلى سوريا، تحت عنوان زائف “العودة الطوعية”. كما سبق أن سلّمت السلطات اللبنانية بعض الناشطين المدنيين السوريين، الذين دخلوا بشكل قانوني الى لبنان للقاء ذويهم وأقاربهم الى السلطات السورية، التي أعدمت بعضهم، ومازالت تعتقل البعض الآخر.
من المرجح أن يُحدث الضغط الأمريكي على الجيش اللبناني لإيقاف تنسيقه مع النظام السوري وملاحقة منتقدي الأسد على الأراضي اللبنانية، فرقاً كبيراً في حياة السوريين. كما يتوجب على الجهات الأمريكية المانحة أيضًا إنشاء أو تعزيز آليات لضمان أن المنظمات اللبنانية غير الحكومية والهيئات الأخرى تتبنى سياسات مناهضة للتحريض ضد اللاجئين السوريين. كما ينبغي أخذ الخطاب التحريضي ضد السوريين في الاعتبار عند اتخاذ القرارات المتعلقة بمنح تأشيرات السفر للولايات المتحدة.
يمكن للولايات المتحدة أيضا أعادة التأكيد على سياستها التي تعتبر سورية بلدا غير آمن لعودة اللاجئين. وفى حين يبدو ذلك التصريح كونه خطوة بيروقراطية بسيطة، إلا أنه من الضروري إيصال رسالة حازمة للحكومة والقوى السياسية اللبنانية، بعدم الاتكاء على فكرة وجود مناطق أمنة يمكن للسوريين الهاربين من جحيم الحرب المستمرة العودة إليها، مما يبرر حملة الحكومة لإجبار اللاجئين على العودة الى سورية.
لا أحد ينكر على الدولة اللبنانية حقها في ضبط أمنها، والبحث عن حلول لتواجد اللاجئين على أرضها، لكن ليس من حق أحد الاستثمار في هذه المشكلة، وتحويل اللاجئين الى وقود لنار مشاكلهم الاقتصادية، وعباءة لتغطية الفساد الكبير في إداراتهم التنفيذية والسياسية. كما أن عدم توقيع لبنان الاتفاقيات الدولية المتعلقة باللاجئين، مما يجعله “بلد عبور” وليس “بلد لجوء”، يُشكل محاولة قصيرة النظر تهدف الى تجنب وضع حلول طويلة المدى لأزمة اللاجئين السوريين في البلاد.