لم يلتزم الروس بكل التفاهمات الضمنية والتي بسببها لم يعترض العرب والولايات المتحدة والأوربيون على دخولهم العسكري إلى سوريا، وبات واضحاً عدم نِيّة الروس بعد تعديل ميزان القوى على الأرض وإنقاذ نظام الأسد من السقوط وميليشيات فيلق القدس من الهزيمة المُحقّقة، أنهم لن يسيروا في حل سياسي يُؤمّن السلام في سوريا ويكون برعايتهم، ويَنتج عنه استقرار نسبي في سوريا ويشترك فيه الجميع، وفق القرار الدولي 2254 الذي وافق عليه الروس والصينيون ومَرّ بالإجماع في مجلس الأمن بعد شهرين من الدخول الروسي إلى سوريا، وكان القرار العتيد بمثابة خارطة طريق للحل.
نَكَثَ الروس بكل تَعهّداتهم وحاولوا الاستئثار بالكعكة السورية بمفردهم عبر حل عسكري يضمن انتصار الأسد وهزيمة معارضيه ووضع المجتمع الدولي أمام أمر واقع، لم يَسمح الأمريكان بذلك فتموضعوا عسكرياً شرق الفرات وفرضوا قانون قيصر وأصبحت سياستهم في سوريا إفشال الجهود الروسية بتثمير الإنجاز العسكري وعدم تحويله لنصر سياسي، ومع دخول الأمريكان في إدارة الأزمة السورية تحولت سوريا إلى مستنقع للروس ولباقي أعدائهم أيضاً.
مَرّت سنوات 2019-2020-2021… والملف السوري مُجمّد إلى أن حصل الغزو الروسي لأوكرانيا في بدايات 2022، عندها انقطعت كل الاتصالات بين موسكو وواشنطن ودخلت الدولتان في حالة صراع أو حرب ساخنة وتمّ تبريد الملف السوري بل وضعه في الثلاجة انتظاراً لنتائج الحرب، نظراً للارتباط الوثيق بين الحربين في سوريا وأوكرانيا.
أيضاً حصلت أحداث في الإقليم لها تأثير مباشر على الملف السوري، أولها استهلاك معظم فترة الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض دون الوصول لاتفاق نووي مع إيران، ثم الحدث الأبرز الذي غَيّر ما بقي من معادلات بعد غزو بوتين لأوكرانيا وهي أحداث 7 أكتوبر، حيث بدأت حرب جديدة ستترك تداعياتها على سوريا بالتأكيد، حيث يجري الآن (وبالنار) تغيير كل المعادلات الجيوسياسية السابقة وترتيب المنطقة وفق أولويات ورغبات الفريق المنتصر، وبما أنّ الأسد ينتمي للفريق المُتوقّع خسارته، فإنّ ذلك الوضع سيطرح أسئلة ماذا لو سقط الأسد؟ ماهو البديل أو على الأقلّ أين هي المعارضة السورية التي تملك شرعية التمثيل في المحافل الدولية.
كما أنه لا يُمكن إغفال منذ أكثر من عامين، مسار سياسي خطير على الثورة السورية (فيما لو نجح) وهو مسار إصلاح العلاقات التركية مع نظام الأسد الذي ترعاه موسكو، حيث لا يضمن أحد تداعيات أو نتائج تطبيع بين أنقرة ودمشق (فيما لو حدث) على الثورة السورية والمناطق المحررة، وبما أنه لا يمكن التأثير في القرار السيادي التركي، فإنه يجب على قوى الثورة والمعارضة الاستعداد جيداً للمراحل المرحلة المقبلة والتي تطرح تحديات كبرى، لن يكون مقبولاً الإخفاق في مواجهتها تحت أيّ عُذر، ويجب رًصّ وتمتين الجبهة الداخلية استعداداً للمرحلة المقبلة..
استشعرت بعض القوى السورية الحية تلك المرحلة المقبلة والتي قد تكون ملامحها لا تُخطئها الأعين، ولن يكون الزمن بعيداً لِتصطفّ النجوم الدولية والإقليمية مع بعضها وتريد إنهاء الصراع في سوريا، وتُدرك تلك القوى أنّ تثبيت الخريطة الإستراتيجية الجديدة لن يُكتب له النجاح إلا باستقرار سورية، ولن تَستقر سوريا إلا بخروج الأسد من المشهد السياسي وبدء عملية سياسية حقيقية وفق المرجعيات الدولية، وإذا لم يُفرز السوريون شريكاً قوياً له مصداقية، فإنه من الطبيعي حينها أن يَتمّ اللجوء للمعارضة السورية الرسمية الضعيفة، وهي ليست مُؤهلة لتمثيل الثورة السورية في الحل ولا تحظى بأيّ مصداقية لدى الشارع الثوري..
والأهمّ في الموضوع ألا يستسلم الجمهور لحالة اليأس والاحباط ويُعزِف عن المشاركة بالحياة السياسية والحياة العامة عموماً، والاستسلام أو العجز عن عِدّة محاولات لتغيير قواعد اللعبة والمشهد الناجم عنها، بسبب اليقين من أنّ الفعل خرج من يد السوريين جميعاً ومنهم جمهور الثورة، وإنّ كل القيادات مُرتهنة القرار للخارج وغير مسموح لها بأيّ فعل وطني حقيقي وإنما تمثيل وجهات نظر الداعمين وقرارهم في الملف السوري.
لم تَخلُ الساحة من محاولات لاستعادة تمثيل الحاضنة الشعبية وبالتالي استعادة القرار الوطني، وكلها كانت محاولات لم يُكتب لها النجاح ولكنها كانت ترفع الصوت بأننا لسنا بخير.
وبعد أحداث الأول من تموز انطلقت حركة شعبية من القواعد أكثر تمثيلية وصدقية في مقاربة الحالة المزرية التي وصلت إليها سفينة الثورة السورية في محاولة لتوجيه البوصلة بالاتجاه الصحيح وقيادتها نحو شاطئ الأمان، أطلق المشاركون على حركتهم باعتصام الكرامة، وطرحوا مطالب واهداف لتلك الحركة ويعملون بِجدّ على مأسستها وخروجها للنور كجسم سياسي وُلِدَ من رحم الحاضنة الثورية.
ومنذ أيام قليلة وُلِدَت محاولة سورية جديدة من جمهور الثورة السورية في الداخل والخارج، حيث وَجّهت منظمة غلوبال جستس “المبادرة السورية الأمريكية” دعوة إلى المنظمات السورية المستقلة والتيارات السياسية السورية العاملة في الداخل وفي كل أماكن تواجد السوريين، حيث استجابت بعض المنظمات والتيارات السياسية للدعوة وتوافقوا على تشكيل لجنة طوارئ لمواجهات احتمالات وتداعيات تطبيع إقليمي ودولي مع نظام الأسد.
وقد حمل الفريق اسم تحالف استقلال سوريا، وأكّد حرصه على استعادة القرار السوري، وإبقاء القضية السورية في صُلب اهتمامات الدول الفاعلة بهدف تطبيق قرارات مجلس الأمن المتعلقة بسوريا وخاصةً القرار 2254.
وورد في اعلان المبادرة “إنّ الحل الوحيد لاستعادة القرار السوري الحر، لن يَتحقق سوى بالعمل بإرادة حرة من أجل تطبيق القرارات الدولية ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، وصولاً إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية ذات مؤسسات حقيقية تُؤمن بالعيش المشترك وحُسن الجوار والتنمية والمساواة كخيارات نهائية للشعب السوري”.
وحول تسمية الفريق بتحالف استقلال سوريا قال البيان المعلن “ذلك يُشير إلى تمكين السوريين والدولة السورية التي ننشدها من العمل بحرية ودون سيطرة أو تأثير خارجيين وأضاف “إن الفريق المشترك يتكون من ممثل عن كل منظمة أو تيار تنخرط في المبادرة للعمل على تحرير بلادنا من كل أشكال الهيمنة المباشرة أو غير المباشرة”.
ومن أهمّ الموقعين على المبادرة الجديدة منظمة غلوبال جستس والمنظمة السورية للطوارئ وهي منظمات سورية فاعلة في الولايات المتحدة بما يخص الشأن السوري، وفي الداخل السوري كان أبرز المنضمين منظمة سوريا طريق الحرية والحركة الوطنية السورية والتجمع العربي الديمقراطي.
تُعتبر تلك المبادرة الجديدة خطوة سورية جديدة على طريق الدفاع عن القضية السورية وحقوق السوريين ومحاسبة المجرمين، وستكون ساحة عملها في الداخل السوري بالدرجة الأولى وفي الولايات المتحدة حيث يتم صناعة أهم القرارات التي تَتَحكّم بالملف السوري إلى جانب ساحات الدول الإقليمية الفاعلة.