ثمة آلاف من الشباب اليافعين لايعرفون حقيقة ما حدث عام 2011 في سورية ، قد يتذكرون أصوات المدافع والقنابل المدوية ، و قد تطوف في ذاكرتهم صور الجنازات التي تعلو أصواتها بالبكاء والتكبير وهي تحمل جثث الشهداء إلى مقابرهم أحياناً تحت وابل من الرصاص الحي ، وبعضهم يتذكر صور هجوم رجال المخابرات على بيوتهم بحثاً عن مطلوب ، ولن ينسى ما يرافق ذلك من رعب وإهانة وإذلال ، ومن توسل الأمهات بدموعهن وصراخهن ، وانكسار الآباء والأشقاء في ساعات الهلع التي حُفرت في قلوب السوريين ، بعضهم يتذكرون رحلة الهجرة المريرة بعد أن دُمّرت منازلُهم وأبيدت قراهم ، وقُتِل العديد من أهلهم ، وبعضهم هاجروا عبر البحر الذي أخذ حصته من ركب المهاجرين فأغرقهم في لجته ، وبعضهم لقوا العناء الأسطوري في رحلة برية عبر غابات أوربا وخلال الملاحقات المريعة التي حصت بعضهم ، وكثير من الشباب الصغار كانوا أطفالاً شاركوا في المظاهرات السلمية في الشوارع والأحياء ، وهتفوا للحرية مع الهاتفين ، وكثير منهم باتوا معتقلين وقد قتل في السجون مئات وربما آلاف ، هؤلاء الشباب الذين كانوا صغاراً قد لايعرفون تفاصيل مما كان يحدث على صعيد سياسي وعسكري ، وأحسب أنهم يتطلعون اليوم إلى معرفة أدق وأوسع ، وقد التقيت منهم من يسألني بحرارة : ماذا حدث بالضبط ؟ لماذا وصلت الثورة إلى هذا المضيق المغلق ، وكيف تمكن الطغيان من قمع الثورة ، ومن تهجير ملايين السوريين ، وكيف انتصر الجيش العربي السوري ، على الشعب العربي السوري ، وشرده في أصقاع الأرض ؟
أولاً – لابد من الاعتراف بأن الجيش العربي السوري ، ورجال الأمن والمخابرات والعصابات الطائفية التي سرعان ما تشكلت لإجهاض الثورة ، هؤلاء جميعاً فشلوا في قمع الثورة .
لقد واجه هؤلاء ثورة الشعب بكل ما لديهم من قوة وعنف ، وبدؤوا بقتل المتظاهرين السلميين على أبواب المساجد التي كانت في بدايات الثورة مواقع التقاء للشباب الثائرين في أيام الجمع التي كانوا يطلقون عليها أسماء وشعارات وطنية وثورية ( وقد انتقد بعض المفكرين والمثقفين المؤيدين لقتل الشعب ) كونهم يخرجون من المساجد وهي بيوت عبادة وليست مواقع تظاهرات وشعارات ، وقد قلت يومها ، إن هؤلاء الشباب اختاورا المساجد لظنهم بأن قدسيتها ستحميهم من القتل على أبوابها ، كذلك لايمكن لهؤلاء الشباب أن يتجمعوا في الجامعات أو المدارس أو المراكز الثقافية حيث يسهل اعتقالهم وقتلهم ، وقد حدث ذلك في كل الجامعات ولاسيما في تظاهرات جامعة حلب ، ولاتوجد في الأرياف السورية عامة أماكن تجمع غير المساجد ، و لاتوجد في المدن أماكن ملاهي وكباريهات كافية لانطلاق التظاهرات منها كي يرضى بها بعض المفكرين الذين يكرهون المساجد ، وعلى الرغم من تصاعد أعداد القتلى والشهداء يومياً صمد الشعب أمام قوات الاستبداد ، وكان الشباب المتظاهرون سلمياً قد أدركوا أن خصومهم مرتاحين في ملاحقة شباب يحملون الورود وأغصان الزيتون ، ويقاتلون بحناجرهم ، وهم يقبلون على الموت الجماعي والشهادة ، وقاتِلوهم يمعنون في قتلهم واعتقالهم ، وهذا ما دفعهم -مطلع السنة الثانية من الثورة – إلى التحول من الحالة السلمية إلى حالة العسكرة للدفاع عن أرواحهم ومدنهم وقراهم وبيوتهم التي دمرها المجرمون ، وكان النظام يريد أن يتسلح المتظاهرون كي يجد ذريعة لإسرافه في قتلهم ، ويذكر أهل درعا أن أحد الألوية العسكرية في جيش النظام وضع أسلحة أمام الجامع العمري ليلة الاعتصام الشهير ، ولكن حكماء درعا أعادوها سريعاً كيلا يتمكن النظام من تحويل المظاهرات والاعتصامات السلمية إلى مواجهات مسلحة ، لكن اشتداد القمع وسقوط العشرات ثم المئات من الشباب يومياً أجبر الثوار على حمل السلاح و الدفاع عن أنفسهم وأهلهم .
ثانياً – كان تدخل حزب الله عسكرياً لقمع الثورة ومساندة الجيش السوري وميليشياته ، منذ شهر شباط 2012 قد جعل الحرب أكثر شدة ، وقد استولى حزب الله على مناطق عديدة في ريف حمص ، وعلى منطقة القصير ، وقتل الآلاف من السوريين ، وكان الجيش الحر في دفاعه المستميت عن الشعب والأرض يحقق حضوراً في السيطرة على كثير من المواقع السورية ويطرد قوى الطغيان منها ، كان حزب الله قد دخل سورية رافعاً شعارات طائفية مذهبية تدعو للثأر من قتلة (الحسين ) بهدف تحويل ثورة الحرية إلى فتنة طائفية ، وللأسف استدعت شعاراته ردوداً مشابهة أوموازية ، ولاسيما حين أطلق النظام سراح الإسلاميين المتشددين من سجونه وهو يعلم أنهم سينضمون للثورة وسيرودن على الشعارات الطائفية بما يماثلها ، ويدعون إلى أفكار وإيديولوجيات يرفضها المجتمع الدولي ويحاربها .
وكان هدف النظام دفع المتظاهرين إلى أسلمة الثورة ، للهرب من شعاراتها المدنية في الدعوة إلى الحرية والكرامة والديموقراطية التي تساندها كل الشعوب و تعلن كثير من الدول دعماً ظاهرياً لها ، و للأسف ساهمت بعض الدول في دفع الثورة إلى الأسلمة ، وإلى رفع شعارات طائفية مواجهة ، ودعمت تشكيل فصائل تدعو إلى إقامة الخلافة الإسلامية ، حتى ظهرت منظمة القاعدة وتفرعت منها داعش التي ارتكبت جرائم مريعة ضد دعاة الثورة وضد أهل السنة بالتحديد ، وقاتلت الجيش الحر قتالاً مريراً ، وقد اتهم الرئيس الأمريكي ترامب سلفه الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري بتأسيس داعش ودعمها رغم إعلان محاربتهما للإرهاب ، وكان حضور داعش وتفرعاتها ذريعة ليقول النظام إنه يحارب الإرهاب ، وهذا ما أعطى المبررات للدول الكبرى لدعم النظام سراً وعلناً ومهد للتدخل الروسي تحت شعار مكافحة الإرهاب ودعم الشرعية .
ثالثاً – جاء التدخل الروسي العسكري حين أخفقت إيران في الدفاع عن النظام وتكبدت هي و ربيبها حزب الله خسائر فادحة أمام قوى الجيش الحر الذي سيطر على ثلتي مساحة سورية يومذاك . وأحدث هذا التدخل أضطراباً كبيراً في مسار الثورة السورية وغيّر مجريات الأحداث ، وأدخل الشعب السوري في صراع غير متكافىء مع قوة عالمية كبرى ، لقد انتفض الشباب ضد القمع الذي مارسته أجهزة الأمن التي بالغت في اعتقال الناس والتسلط على الدولة ، وكانت شعاراتهم في البدايات مطالبة بإصلاح النظام ليس أكثر ، بل إنهم حين واجهتهم أجهزة الأمن بالعنف الشديد وبالقتل ، استعانوا بالرئيس الأسد وكان البعثيون منهم يظنون أن أجهزة الأمن تتصرف خارج أوامره ( وقد اتصل بي شخصياً شباب من تظاهرة درعا الأولى يطلبون مني أن أبلغ الرئيس أن أجهزة الأمن تطلق عليهم الرصاص الحي ) ولم يكن أحد من المتظاهرين يخطر له على باله أنه سيدخل حرباً ضد حزب الله والميليلشيات الشيعية وضد جيش إيران وحرسها الثوري ، ثم ضد روسيا وما تملك من أسلحة دمار شامل ، ثم ضد تكتل عالمي دولي يناصر النظام ويخشى انتصار الشعب السوري خوفاً على مستقبل الجارة إسرائيل التي تطمئن إلى كون النظام ملتزماً بأمن حدودها مع سورية ، ولاتريد أية مغامرة تغير القواعد المتفق عليها بعد حرب تشرين التي بقيت سارية المفعول رغم حالة العداء المعلنة .
يقول حسن نصر الله في حديث له لقناة الميادين (إن قاسم سليماني هو الذي أقنع بوتين بالتدخل العسكري ) وأضاف – إن الرئيس الروسي اقتنع بالتدخل بعد اجتماع مع سليماني مدة ساعتين في موسكو بحضور عدد من المسؤولين الروس، إذ عرض سليماني خلال الاجتماع خرائط السيطرة في سوريا، وناقش معه آليات العمل، واستطاع أن يقدم إضافة أدت إلى اتخاذ روسيا قرار التدخل -) ولنا أن نتذكر أن بوتين زار إسرائيل والتقى مع نتنياهو للتنسيق مع إسرائيل قبل إعلان التدخل .
كانت إيران قد واجهت عجزها العسكري في حسم الموقف في سورية لصالح النظام فاستعانت بروسيا ، ولقي التدخل الروسي العسكري موافقة من أوباما الذي سبق أن سلّم العراق لإيران مع حرية التصرف .
وبدأت المرحلة الثانية من ملحمة الثورة بدءاً من أيلول عام 2015 ، وهذا ما أرجو أن أتابع الحديث عنه في مقال قادم .