لا تغيب صورةٌ بالأبيض والأسود، يعلوها الغبار، وتسكنها العتمة، كثيراً ما تراها في بيوت المعارضين السوريين الذين تبعثروا ما بين المعتقل والمنفى، تاركين بيوتهم ومكتباتهم وزوجاتهم وأطفالهم ونباتاتهم وطيور الكناري الوادعة في شرفاتهم، للوحشة والقلق والمدى السوري المفتوح للمجهول، بينما تبقى صورة الأبيض والأسود بين رفوف الكتب، رجل يبتسم لتقلبات الدهر السوري، ولا فرق إن كان الزمن في السبعينات أو الثمانينات أو التسعينات، أو في سنوات بشار الأسد العجاف..أو الآن في ثورة السوريين على نظام الاستبداد وعلى أنفسهم.
كانت تلك صورة رياض الترك، ابن العم، أبو هشام، محمود موسى، (الاسم الذي فرض عليه في سجلات السجانين) والذي فضّل البقاء في سوريا حين غادرها كثيرون، وفضل البقاء في السجن وفي الزنزانة الانفرادية بلا فراشٍ للنوم سنين طويلة، رافضاً التوقيع على أي ورقة يعترف فيها بحافظ الأسد وشرعية حكمه، مستنداً إلى تاريخ طويل من الصراع في سوريا وعليها، خبره جيداً وتمرّس فيه، ليس فقط من معترك السياسة، ولكن وقبل كل شيء من عميق الثقافة والمعرفة، التي حرص الترك على تثبيتها بين كوادر حزبه، الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي، ثم حزب الشعب الديمقراطي كما أصبح اسمه فيما بعد.
ولد رياض الترك في العام 1930 في حمص العدية، حمص خالد بن الوليد، الذي دمّرت آلة القصف الوحشية ضريحه تماماً، غير آبهة بالمعنى الرمزي الكبير لفاتح بلاد الشام والعراق، وناقل الراية العربية شمالاً خارج جزيرة العرب، محاولة إعادة التاريخ إلى الوراء إلى ماقبل ظهور العرب في المنطقة، حيث كان الفرس يشكلون التهديد الكبير والدائم للجزيرة والشام وأي وجود حضري يتخللهما، وقد رأى الترك النور بين جيل عاش التحولات السورية الأولى، احتلال فرنسي مباشر، ووعي سوري قومي عربي بدأه أهل الشام ومفكروها قبل غيرهم، آثارٌ عثمانية في كل مكان، تذكّر السوريين بأن “شام شريف” واستامبول شمسان في فلك واحد، ولكن وفي الوقت ذاته، وثبة سورية نحو التحديث مثّلها كبار السياسيين والمثقفين، من أمثال ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني وفارس الخوري وعبدالرحمن الشهبندر وأنطون سعادة وعلي الطنطاوي ومحب الدين الخطيب ثم مصطفى السباعي وعصام العطار، وطبعاً خالد بكداش، الذي كان قد تحوّل إلى قيادة تاريخية للحركة الماركسية السورية أفضت إلى ما أفضت إليه فيما بعد، في مناخ كهذا أصبح الحزب الشيوعي السوري اللبناني أحد أكبر الحركات السياسية المدنية الناشئة في سوريا حينها، ولينضم إليه رياض الترك فتى في العام 1944.
“ما زال السجن داخلي، ليس من باب الخوف ولكن السجن رمز العبودية، والعبودية ما زالت قائمة في بلدي..تحطيم السجن مهمة كبيرة مرتبطة بحرية البلد، وسجن الناس سجنان، سجن يحاولون تجنبه بمختلف الأساليب، حتى سجنوا أنفسهم للتلاؤم مع الأوضاع ، بالهرب من السجن المادي إلى سجن معنوي.. وهذا أرذل” هكذا قال الترك في فيلم محمد علي الأتاسي، ويرى أبو هشام أن السوريين والعالم صنّفوا المشهد السوري بصورة خاطئة، حين اعتبر الجميع أن هناك قوتين وحسب تتحكمان بالحياة السورية، قوة النظام وقوة الإخوان المسلمين.
رجلٌ نشأ في ميتم للجمعية الإسلامية الخيرية في حمص، ودخل السجن أول مرة في العام 1952، ليقضي خمسة شهور في عهد الرئيس الشيشكلي، ليحصل بعدها على إجازة في المحاماة في العام 1958، ثم أعيد إلى السجن السياسي لمدة سنة وأربعة أشهر 1958 ـ 1961 ثم قرر حافظ الأسد إخراج رياض الترك من اللعبة السياسية في سوريا، فاعتقله في 28 تشرين الثاني من العام 1980، حتى 30 أيار 1998 (ثمانية عشر عاماً في قبو تحت الأرض في فرع الأمن العسكري، في الزنزانة المنفردة (51)، بعد أن جرى تعذيبه والتحقيق معه مطولاً، وأشد ما أثّر فيه تعذيبه بالـ (شبح) على سلّم المحققين، فمورس عليه التشبيح من وقتها، قبل ثلاثة عقود من انتشار الكلمة إعلامياً وفي كل مكان.
أما “حين تكون في السجن فإنك لا تستطيع أن تفعل شيئاً سوى الصمود، تتوقف عن التفكير في كل شيء.. تصمد في وجه النظام ولا تساومه” كانت هذه فلسفة رياض الترك في السجن الطويل، وهي ذاتها فلسفته في السجن الكبير كما يراه، فلا يملك الشعب السوري سوى أن يثبت، دون أن ينظر إلى حجم التضحية وشكلها وعمرها، ولكن على ماذا عاقب حافظ الأسد رياض الترك، كل تلك العقوبة، وأصرّ على عزله عن المجتمع، وإبعاده عن لعب أي دور في سوريا؟! لم يكن سرّاً، التوجّه المختلف والجديد الذي ظهر في أواسط الستينات بعد عودة رياض الترك من منفاه في لبنان، ونشوء تيار تفكير مشترك، وجد فيه الترك أفقاً لما يؤمن به، وما جعله يظن أنه بإمكانه أن يصنع منه مشروعاً مدنياً وطنياً سوريا عربياً عالمياً، في غياب أي مشروع يجمع الناس في سوريا، وذلك من خلال التحالف مع خيوط الشراع البعثي اليسارية، صلاح جديد ثم نور الدين الأتاسي، الذي كاد ينجح مع الترك في تأسيس (حزب ـ تيار ـ تجمّع) اشتراكي سوري عربي غير متعصب قومياً ولا يقف موقف العداء الحاد مع التيار الإسلامي، ولا يتلقى التعليمات من موسكو، لولا حركة حافظ الأسد التصحيحية (انقلاب العام 1970) الذي زجّ الرفاق على إثرها في السجون، وترك الترك طليقاً أعزل إلا من رفاقه في حزبه الأم تحت قيادة الكردي السوفياتي خالد بكداش، سنوات قليلة، ويصبح رياض الترك الأمين الأول للحزب الشيوعي السوري في 1974، بعد أن رفض بشدة طيلة العامين الذين سبقا ذلك، الانضمام إلى مشروع حافظ الأسد بتجميع ثلة من الأحزاب في قالب مفصّل تحت قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، رغم موافقة خالد بكداش الأمين العام، على الانضمام إلى (الجبهة الوطنية التقدمية) فانشق الحزب الشيوعي على نفسه، وخرج المكتب السياسي ليكون الخط العنيد في السياسة السورية، في الطريق المتعرجة إلى لحظة اعتقاله الكبرى، أوائل الثمانينات، كان رياض الترك قد تمكّن من صنع فلسفة خاصة للتعامل مع الملفات السورية، تحافظ على الهوية القومية والإسلامية، (وقد اكتشف قريبه يوسف فيصل هذا متأخراً عن الترك قرابة العقود الثلاثة، حين أدخل على وثائق حزبه بقرار جماعي عبارة الإرث الإسلامي، وأيضاً يجب أن يتخلص هؤلاء من حرفية الماركسية).
محام يتيم مسكنه السجن
* نشأ في ميتم للجمعية الإسلامية الخيرية في حمص، ودخل السجن أول مرة في العام 1952، ليقضي خمسة شهور في عهد الرئيس الشيشكلي.
* حصل بعدها على إجازة في المحاماة في العام 1958، ثم أعيد إلى السجن السياسي لمدة سنة وأربعة أشهر 1958 ـ 1961
* قرر حافظ الأسد إخراج رياض الترك من اللعبة السياسية في سوريا، فاعتقله في 28 تشرين الثاني من العام 1980، حتى 30 أيار 1998.
* أشد ما أثّر فيه تعذيبه بالـ (شبح) على سلّم المحققين، فمورس عليه التشبيح من وقتها، قبل ثلاثة عقود من انتشار الكلمة إعلامياً.
ولأن حافظ الأسد لا يحتمل ظهور فكر كهذا في المناخ الذي رسمه بعناية في سوريا السبعينات، ما بين تطرف إسلامي، وعلمانية يدّعي تمثيلها، ويتابع ابنه على هذا النهج اليوم، فقد اعتبر أن هناك علاقة أكيدة ما بين رياض الترك وتنظيم الإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة، في أواخر السبعينات، وسنة 1980، بعدما انضم المكتب السياسي، إلى تحالف المعارضة اليسارية السورية (التجمع الوطني الديموقراطي) عند تأسيسه في العام 1980، فرتّبت التهمة للترك وحده، وأدخل في زنزاته، وحده، التي رافقها ورافقته عشر سنين قبل أن يتم توسيعها قليلاً ليكمل ما تبقى من السنوات الثمانية عشر هي عمر التحولات السورية، حتى ما قبل لحظة توريث الحكم من ديكتاتور إلى ديكتاتور في مطلع الألفية.
أعيد رياض الترك إلى السجن بعد وصفه حافظ الأسد بالديكتاتور (مات الديكتاتور) في عهد بشار الأسد، عيد اعتقال الترك في أيلول 2001، وبدأت محاكمته أمام محكمة أمن الدولة العليا في نيسان 2002، ثم صدر عليه الحكم بالسجن لمدة سنتين ونصف السنة، بتهمة الاعتداء على الدستور وإلقاء الخطب بقصد العصيان وإثارة الفتنة، ونشر أنباء كاذبة توهن عزيمة الأمة ونفسيتها، وبجنحة النيل من هيبة الدولة، وأفرج عنه في 16 تشرين الثاني 2002، ثم عزل من جديد، ومنع من العمل بحرية في حقل المحاماة، فاستمر في إعادة ترتيب حزبه، ليرّكز على الشباب وليكتشف الطاقة التي أنبتت الثورات في ربيع العرب مبكراً.
ويمكن لمن قرأ رواية إرنست هيمنغواي الشيخ والبحر، أن يرى كم لاحق الشيخ رياض الترك، وسط البحر السوري متلاطم الأمواج، تلك الحرية…سمكة السيف، و”لم يصدّق الشيخ عينيه.. كانت بالغة الضخامة حتى خـُيـّل إليه وكأنه يشدّ إلى قاربه قاربًا أكبر منه بكثير.. وها نحن نبحر في سهولة ويسر،أجل نحن نبحر أنا والسيف مثل أخوين.. وقد شدّ أحدهما إلى الآخر جنبًا إلى جنب” (الصفحة 79ـ100) حتى أنه وضع وصفة لمن يمكن أن يدخلوا السجن السياسي، من أربع مراحل، تبدأ بنسيان الواقع الخارجي، وتنتهي بالصمود والثبات، للمحافظة على صورة المناضل السياسي السوري وهيبة الحزب.
ولكن الترك صمد، وبقي مثالاً حديدياً للسوريين في صمودهم، ومنهم من أطلق عليه لقب مانديلا سوريا، وربما تكون تجربة الترك السورية نسخة أصلية لا مثيل لها في العالم، ولا تشبه أي تجربة.
قابلت الترك في مقهى هافانا بدمشق، أواسط حكم بشار، وأجريت معه حواراً صعباً ومختزلاً عن المثقف السوري ودوره السياسي، فصب جام غضبه على المثقفين، واعتبر أن النخبة ضيعت السياسة وضيعت الثقافة معا، ولكن فرحه حين اشتعلت جذوة الثورة السورية لم يكن له حدود، وأصرّ على البقاء في السجن الكبير ـ كما سمّاه ـ حتى تتهدّم جدران السجن بالكامل معنويا ًومادّياً، وبدأ التشابك السياسي في تمثيل المعارضة السورية في الخارج، وعاد تحالف الأحزاب ينشأ، والصلة مع الإخوان المسملين، والمجلس الوطني السوري، الذي يتّهم رياض الترك بالهيمنة عليه من خلف حجاب الإخوان المسلمين، ويقال إن الترك هو الوحيد الذي يصرّ على عدم محاورة نظام بشار الأسد منسجماً بذلك مع إرادة الشعب، الذي لم يخرج ليحصل على نصف أهدافه أو ربعها، بل عليها كاملة، وأول تلك الأهداف إسقاط النظام الاستبدادي بالكامل، ولهذا كان خط المجلس الوطني السوري رغم الكثير والكثير من عيوبه وأخطائه وفضائحه، خط العناد السياسي بحق، ورفض الحلول الجزئية والتقسيطية رفضاً تاماً، حتى دخل المشهد السوري في الفوضى “إن فرحته هذه لم تدم طويلا بعد اهتداء القرش (ماكو) إلى الأثر الدامي، وقد قال الشيخ في اللحظة التي طعن فيها رأس القرش برمحه: (لقد التهم نحوًا من أربعين رطلا.. ليس هذا فقط لقد أخذ حربوني أيضا والحبل بكامله، وها هي سمكتي يسيل منها الدم، ولا بدّ أنْ تـقبل الآن أقراش أخرى ص104)، وبعد معارك طاحنة بين الصياد وأسماك القرش التي توقع قدومها عاد إلى الشاطئ بهيكل عظمي للسمكة (لم يبق من تلك السمكة ما تستطيع الأقراش أكله.. كانت أسماك القرش تنقضّ على هيكل السمكة العظمي كما يتهافت الفقراء على بقايا المائدة ص121) وقال في ذات نفسه (ولكن ما الذي انتهى بك إلى الهزيمة؟ وأجاب في صوت عال: لا شيء كل ما في الأمر أني أمعنت في الابتعاد عن الشاطئ ص122) ، وقال الشيخ للغلام بعد عودته إلى الشاطئ : (لقد هزموني يا مانولين، لقد هزموني حقا ص126).
ولكن رياض الترك يريد من الثورة السورية ومن نفسه وآماله، تجاوز شيخ هيمنغواي، ولا يقبل الهزيمة اليوم، فهو لا يعتبر أن حافظ الأسد قد هزمه، ويعتقد أنه حقّق معظم أحلامه فلم تعد سوريا كما وصفها يوماً في “حتى لا تكون سوريا مملكة للصمت”.. يعمل اليوم متخفياً متنقلاً بشكل سري، ما بين اللجان والتنسيقيات، في المدن المدمّرة، وفي الأرياف، شيخاً جليلاً صامداً.. أشبه بالصخرة أمام البحر.
الكاتب: إبراهيم الجبين – المصدر: صحيفة العرب