نعيش اليوم في الذكرى 13 للثورة السورية العظيمة، الثورة التي غيرت وجه المنطقة وأسقطت الأقنعة عن المواقف والإرادات السياسية الدولية والإقليمية، والأهم من ذلك كشفت حقيقة النظام السوري، وأصبح وجهاً لوجه أمام حقيقته المخزية بالقتل، والتهجير، والتدمير لشعبه وأرضه.
منذ العام 2011 حين قرر السوريون التعبير عن أنفسهم، مرّ هذا الشعب بكثير من التجارب المرة. وعلى الرغم من كل التحديات التي واجهته، فإن إرادة الحرية والحياة ظلت صامدة طوال سنوات من النضال، إلى أن حول النظام السوري هذا البلد إلى بؤرة استقطاب للإرهاب لخلط الأوراق وقتل إرادة الشعب السوري بشتى الأساليب، وبدأت على يد النظام السوري انتشار الجماعات الأصولية بكل تنوعاتها، ليدفع الشعب السوري أثماناً باهظة بعد أن تحول جزء من الجغرافيا السورية إلى بيئة ملائمة للتطرف والإرهاب، في محاولة خبيثة من النظام وداعميه بأجهزتهم الأمنية إلى تحويل صورة الحرية النبيلة إلى شكل من أشكال التطرف والعنف، وكانت نتيجة الصراع بين قيم الحرية والعدالة وبين الاستبداد، مئات الآلاف من الشهداء والجرحى وموجة نزوح هي الأكبر من نوعها في القرن الحادي والعشرين، أثقلت كاهل دول الجوار وأوروبا وربما يمكن القول العالم بكامله.
بعد 13 عاماً من الحرب والدمار اليومي بحق السوريين، ثمة أرقام صادمة للإنسانية، كانت على مدى سنوات عناوين عريضة لهذا العالم.
بلغ عدد القتلى على يد قوات الأسد وداعميه، أكثر من مليون شهيد، من بينهم 20113 طفلا و 16378 امرأة، بينما وصل عدد المعتقلين في سجون النظام إلى 150 ألفا، وجرى تهجير 13 مليون سوري، نتيجة هذه الحرب الظالمة على الشعب السوري، والسبب إصرار هذا الشعب على الانتقال من الدولة البوليسية المجرمة إلى دولة مدنية آمنة ومستقرة.
وعلى الرغم من معرفة الشعب السوري بتركيبة هذا النظام وطبيعته المتوحشة فإنه قرر فعلاً بكل مكوناته أن يقف ضد هذا النظام، رغم الكلفة التي تفوق قدرة الشعب السوري على التحمل، ومع ذلك ما زال على طريق الحرية ومؤمنا بقضيته.
أمام هذه الأرقام المرعبة والمعيبة بحق الإنسانية والمجتمع الدولي يتساءل المرء كيف يمكن للعالم الحر والمتحضر الصمت أمام كل الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري، كيف يمكن للعالم أن يتهرب من مسؤولياته الأخلاقية والسياسية أمام أشنع نظام عرفه التاريخ الحديث في الشرق الأوسط.
دفع الشعب السوري ثمن المنطق الدولي الأعرج، الذي يقبل بسلطة الأمر الواقع والوحشية اللامحدودة، ودفع ثمن
ضعف الإرادة الدولية، والخوف الدولي من انفلات المجرم، ولم يبق للسوريين سوى قرار الاعتماد على أنفسهم من أجل التخلص من هذا النظام.
وعلى الرغم من كل ما جرى، من خذلان في بعض الأحيان ومن هروب من المسؤوليات على المستوى الدولي في كثير من الأحيان، ومن تغير المزاج الدولي والإقليمي بسبب تراكم الأزمات الدولية، فإن المعارضة السورية ظلت مؤمنة بالحل السياسي من أجل بناء دولة لكل السوريين، رغم معرفتها بأن هذا النظام لا يقبل الشراكة ولا يقبل حلولا سياسية، لكن كان وما زال الخيار الأمثل للمعارضة هو خيار الحل السياسي، وفق النقاط الست التي وضعها المبعوث الأممي للأزمة السورية كوفي عنان (2012)، وطالما كانت المعارضة السورية وخصوصا هيئة التفاوض التي تشكلت في الرياض في كانون الأول ديسمبر عام 2017 مستعدة للحوار السياسي وتطبيق القرارات الدولية، ومن أجل هذا تشكلت الهيئة بشكلها الموسع لتشمل كل القوى السياسية والعسكرية المؤمنة بالحل السياسي وكان دائما الهدف هو تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي ،2254 والقرار 2118 والتأكيد على هيئة الحكم الانتقالي في سوريا، إلا أن هذا لم يحدث نتيجة التراخي الدولي في كثير من الأحيان، وبعض التناقضات حول الرؤية الدولية القاصرة، حيال ما يجري في سوريا.
وبالرغم من مرور أكثر من تسع سنوات على إصدار القرار 2254 فإن الهيئة ما تزال تتطلع لحل سياسي وفق القوانين والقرارات الدولية، لأن إيمان المعارضة بالشرعية الدولية كان المنهج الذي رأت فيه الحل لتحقيق الأمن والسلام في سوريا، على اعتبار أن هذا القرار يمثل الإرادة الدولية من أجل العبور إلى منطق الدولة في سوريا، ولكن للأسف مجلس الأمن الدولي المسؤول الأول عن تطبيق القرارات الدولية، وهو من يتحمل مسؤولية فشل العملية السياسية.
ليس في مصلحة أحد اليوم، أن يعطل العملية السياسية، التي باتت الحل الوحيد على الطاولة، بينما تتجه الدولة السورية إلى مزيد من الانهيار والفوضى، ويعاني الشعب السوري من أسوأ حالة معيشية لم تشهدها سوريا في تاريخها، إذ تشير بعض الإحصائيات إلى أن 90 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، والسبب هو تعطيل الحل السياسي وسطوة النظام على السوريين الذين أصبحوا رهينة.
في الأعوام الأخيرة وتحديداً عام 2022 ومع توقف مسار المفاوضات السياسية، بين وفدي النظام السوري والمعارضة، تحوّل تراجع الاهتمام الدولي بالملف السوري، إلى مستوى آخر من التراجع، يتمثل في التعود على الحالة السورية، وهو أخطر ما يعانيه المسار السياسي، باعتبار أن القضية أخذت طابع السكون، لكن مرة أخرى يخطئ المجتمع الدولي، في تقييم الوضع في سوريا، إذ أثبتت المظاهرات السلمية التي اندلعت فجأة في محافظة السويداء للعالم أجمع أن التصور بسكون الأزمة السورية، ما هو إلا وهم تحاول الدول أن تعيشه؛ للتهرب من مسؤولياتها، وما هو إلا نوع من لملمة القضية بأي شكل. ولم يتوقف الأمر عند مظاهرات السويداء السلمية ضد النظام، بل أثبتت المظاهرات السلمية في رأس العين والراعي وجرابلس وعفرين واعزاز والباب أن إرادة السوريين لم تنكسر وأننا مستمرون حتى تحقيق أهداف ثورتنا العظيمة.
إن النمط الدولي الجديد الذي يرتكز على تأجيل حل القضايا المصيرية للشعوب، بات قنبلة موقوتة، قد تنفجر في أية لحظة، وما حدث في غزة أكبر دليل على ذلك، ولا شك أن سوريا بدورها الجيوسياسي في المنطقة، هي أيضا قنبلة موقوتة، قد تنفجر في أية لحظة، في وجه العالم بمستوى أكثر خطورة على الأمن والسلم الدوليين، خصوصاً في ظل الجحيم الاقتصادي الذي يعاني منه الشعب السوري في الداخل وهشاشة الدولة السورية، تبعاً لسنوات الحرب، وبقاء الصراع معلقاً من دون حل، وتداخل الصراعات الدولية على الأرض السورية، كل هذه المعطيات من شأنها أن تحول سوريا إلى مستنقع غير قابل للحياة.
موقع سوريا الإستراتيجي، المطل على أوروبا من نافذة البحر المتوسط، وجوارها لدولة مثل تركيا (عضو في حلف الناتو)، وكونها بوابة تجارية بين دول الخليج وتركيا وأوروبا، يؤهلها أن تلعب دوراً أكثر نفعاً وفاعلية في النظام الدولي، وهذا لا يمكن أن يحصل إلا بإرادة دولية حقيقية، تعيد للسوريين حقوقهم، وتضمن دمجهم في بناء مستقبل بلادهم، بمشاركة الأصدقاء والأشقاء، أما الأشقاء العرب فلم تكن حساباتهم صحيحة بالتوجه إلى التطبيع مع النظام، خصوصاً أن بعض الدول ما تزال تعاني من تهرب النظام من وعوده بوقف تصدير الكبتاغون وعودة اللاجئين بطريقة آمنة، وهذا أيضاً لم يحدث ولن يحدث في ظل نظام الأسد، ما يعني أن هذا نوع من التطبيع المجاني وعلى حساب مصلحة الشعب السوري.
إن ما حدث من تحول خطير في العامين الماضيين في التفكير العربي كان بمثابة صدمة على مستوى المعارضة وعلى مستوى السوريين، إذ تدافعت بعض الدول للتطبيع مع النظام السوري بصورة دراماتيكية مؤسفة، رغم اليقين أن مثل هذه المحاولات لم ولن تكون الحل في سوريا، ذلك أن هناك قضية شعب مظلوم، وحقوق مسلوبة ومعتقلين ما زالوا في السجون، ودولة مفككة، تحكمها ميليشيات منفلتة على الأرض السورية ودولة لا تملك قرارها حتى على مناطق سيطرتها، كل هذا لن يسهم في محاولات استيعاب النظام أو التطبيع معه ما دامت هذه المشكلات العميقة لدى الشعب السوري من دون حلول.
ومع ذلك، في كل عام يتجدد الأمل لدى الشعب السوري، بالحل السياسي، ومهمتنا في هيئة التفاوض، التي نعمل عليها دون كلل، أن نعيد المسار السياسي، إلى قيد الحياة بمساعدة السوريين وما تبقى من الأشقاء والأصدقاء والداعمين، من أجل طيّ صفحة أبشع نزاع في القرن الحادي والعشرين.
وهيئة التفاوض اليوم هي أكثر قوة وإيماناً بالحل السياسي من أجل تحقيق تطلعات الشعب السوري، وهي اليوم أكثر تصميماً من قبل، على الرغم من كل الظروف الإقليمية والدولية، إلا أن هذه المهمة لا يمكن إنجازها من دون وحدة الشعب السوري، ووقوفهم جنباً إلى جنب من أجل استعادة حقوقنا.
إن المعركة مستمرة مع النظام وهي معركة طويلة، لأنها صراع بين قيم الأمن والاستقرار وبين فوضى النظام، معركة بين الحرية وبين الاستبداد، والعدالة مقابل الظلم، وهذا يتطلب بطبيعة الحال وحدة السوريين من أجل العبور إلى الضفة الآمنة، سوريا التي يتشارك فيها كل السوريين، ويتساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، سوريا التي لا تشكل أي خطر لا على الشعب ولا على الجوار.. وليس لدى الشعب السوري سوى خيار الانتصار.. مهما طال الزمن.