رهام عيسى-مواطن
نور حريري، كاتبة ومترجمة وباحثة سورية، مقيمة في ألمانيا، حاصلة على شهادة البكالوريوس في هندسة الاتصالات، توجهت لدراسة الفلسفة في ألمانيا، بعد أن كان لها العديد من الإسهامات في مجال الكتابة والترجمة وحتى الأدب. انتقلت من الطب ثم إلى الهندسة في سوريا؛ فهي التي تعتقد أن مجاراة المجتمع في لحظة ما ضرورية شأنها شأن الثورة عليه، لكنها وجدت في النهاية شغفها في دراسة الفلسفة؛ فالفلسفة هي التي اختارت “نور” وليس العكس.
انتقلت من سوريا إلى ألمانيا، وقد صرحت أنّ خيار التوجه لدراسة الفلسفة في إحدى اللحظات كان خيارًا جنونيًا؛ فالكثير من الأمور كان عليها فعلها بعد وصولها إلى ألمانيا حيث بدأت من الصفر. رفاهية التفرغ للدراسة لم تكن متاحة في ظل حاجتها للعمل، وأيضًا حاجتها لممارسة حياتها الاجتماعية، وهذا ما قد يصعب موازنته مع مجال مثل الفلسفة، الذي يحتاج جهدًا ووقتًا وتفرغًا كاملًا، ناهيك عن التركيز وصفاء الذهن. لكن نور تمكنت من حلّ هذه المعادلة الصعبة، وتجاوزت كل التحديات التي واجهتها. تعلّمت الألمانية والفرنسية. درست البكالوريوس والماجستير وهي الآن في مرحلة الدكتوراه.
أنجزت ونشرت حتى الآن أربع ترجمات، إضافة إلى كتابتها العديد من المقالات والأبحاث المحكمة. ومشاركتها بمؤتمرات عديدة. وفي مجال الصحافة والإعلام كان لها إسهامات عديدة (بين حلقات تلفزيونية وبودكاست). حاورت فيها كبار الفلاسفة والمفكرين العرب والغربيين، تجربة “نور” فريدة من نوعها؛ فهي تؤمن بأهمية الفلسفة التي تحتك باليومي، والتي لا تتطلب مهارات فلسفية، ولكنها في الوقت نفسه تعتقد أن هناك ثمنًا سيدفع مقابل تبسيط الفلسفة لتصبح أكثر قابلية للفهم، الأمر الذي تعتقد نور أنه يتعلق بالشخص نفسه؛ فمن يريد أن يفهم الفلسفة سيفهمها، وفي هذا السياق قالت: “بالنسبة لقابلية الفلسفة للفهم؛ فهذا ليس ضروريًا أو واجبًا، لكن من يرغب في فهمها سيفهمها، وهذه ليست مسؤولية الفلسفة؛ بل مسؤولية الشخص نفسه”.

كما تؤمن أيضًا بأهمية وجود “الصحافة الفلسفية” التي تساهم في تشكيل قارىء مختلف، وبردم الفجوة بين الصحافة والفلسفة، وقد عبرت عن هذا بقولها: “هذه الفجوة يجب ردمها بدرجة ما، ووجود صحافة فلسفية هو ما يساعد في ردمها”. كما أن لها آراء وملاحظات هامة فيما يتعلق بقضايا محورية كالنسوية، وبموضوعات جدلية كالدين والسياسة؛ فلا تعتقد أن التدين يقف عائقًا أمام الانفتاح، وتؤكد “نور” على ذلك بقولها: “ما يقف عائقًا أمام الانفتاح هو تثبيط ديناميكية الدين وتثبيت قاعدته، وإفقار حامليه نفسيًا وعقليًا وماديًا”. كما ترى أن التسليم بالعلم يشبه في جوهره التسليم بالدين الذي يخلو من المساءلة والتشكيك والنقد. عن هذه المواضيع وعن مواضيع أخرى مهمة، كان لـ مواطن هذا الحوار مع نور حريري.
“على الرغم من أن العلم والدين على طرفي نقيض، ولكل منهما أدواته ومفرداته وطريقته في مقاربة الحقيقة واكتساب المعرفة، يصعب الحديث عنهما دون الانطلاق أولًا من الأسئلة التالية: أي علم وأي دين هذا الذي نتحدث عنه؟”
بين سوريا وألمانيا
1- قبل ألمانيا، سنوات العيش في سوريا؛ سواءً أكان من خلال الحرب أو من خلال الثقافة الاجتماعية الطاغية والسائدة هناك، إلى أي مدى كان لها تأثيرها في خياراتك وتوجهاتك؟
التأثير جاء من سوريا أولًا، ومن كل مكان زرته وكل تجربة عشتها وكل كتاب قرأته تاليًا، شأني شأن أي شخص آخر، أتفاعل مع كل ما حولي ومَن حولي، وأعيد إنتاج نفسي مرات عدة. من ناحية أخرى، لا أحب كلمة تأثير، أفضّل كلمة تفاعل؛ فهناك فعل ورد فعل، هناك فرض ورفض، هناك قانون ومقاومة. وعليه؛ فحين أقول أنا سورية أو التأثير جاء من سورية؛ فهذا لا يعني أنني أدافع عن ثقافة سورية أثّرت فيّ وأحملها معي وأتغنّى بها؛ بل على العكس تمامًا، لا أحب فكرة الثقافة الصافية، ولا أحب فكرة الانتماء إلى ثقافة معيّنة، ولا تعني الثقافة في حدّ ذاتها لي شيئًا؛ بل أقول إن مقاومتي للثقافة إياها هي السوريّة. إن رفضي، وتفاعُلي مع محيطي، هو السوريّ فيّ.
ربما يتساءل أحدهم هنا ماذا يعني أن يكون “الرفض” سوريًا؟ هل هذا نوع من التفلسف الذي لا معنى له؟ في الحقيقة، لا. هذا يعني أن هناك نقطة ما في داخلنا أعلى من “الثقافة”، نقطة تتجاوز الثقافة والتشكيل السياسي للأفراد والجماعات، وتربطنا بتلك الأماكن التي جئنا منها، وهذا لا يعني إطلاقًا أن هذه النقطة “طبيعية” أو يمكن إرجاعها إلى الطبيعة؛ هذه النقطة ثقافية سياسية، أُنتِجَت بفعل الثقافة والسياسة، لكنها تجاوزتهما. لذلك، أقول لأصدقائي الذين يفهمون لغتي حين أتفلسف ممازحة، “أنا سورية في النتيجة، لا في الأصل”.
2- العيش في ألمانيا والانفتاح على ثقافات جديدة وعوالم مختلفة وتجارب ربما أكثر جدية، هل خلقت شخصية جديدة؟ أم أنك اليوم امتداد للشخصية التي اختارت في لحظة ما مجاراة المجتمع وأحكامه؛ فالتحقت يومًا بكلية الطب؟
مجاراة المجتمع ضرورية في لحظة ما، شأنها شأن الثورة عليه. اللحظة الأولى كانت ضرورية في حياتي. ومن دون الأولى، لا توجد الثانية. لكن الأهم؛ في اعتقادي، هو الانتباه إلى أن المقارنة بين مجاراة المجتمع في سوريا والتحرّر من المجتمع في ألمانيا، هي مقارنة غير منصفة؛ فهنا أيضًا في ألمانيا، توجد مجاراة للمجتمع، والحرية؛ في هذا السياق في ألمانيا، جزء من مجاراة المجتمع وليست ثورة عليه. لذلك، يجب أن نكون دقيقين جدًا باستخدام المصطلحات والمقدّمات التي ننطلق منها؛ فربما تكون طالبة جارت المجتمع شكليًا ودرست الطب في سوريا أكثر ثورية وحرية من طالبة أخرى تعيش في ألمانيا مثلًا، وتختار بحرية مطلقة دراستها وحياتها وتوجّهاتها.
3- ما أبرز التحديات التي واجهتك مع وصولك ألمانيا على الصعيد الشخصي والمهني؟
التحدي الأصعب، كان هو الدراسة نفسها، لم تكن لدي رفاهية التفرّغ لها. كان عليّ أن أعمل، وأن أفكر في لقمة العيش، وأن أفكر أيضًا في حياتي الخاصة، العائلة والارتباط والحياة الاجتماعية، بالتزامن مع صعوبات التكيّف في بلد جديد وتعلّم لغات جديدة. الفلسفة تحتاج إلى التفرغ، صفاء الذهن، تحتاج إلى ساعات طويلة من التفكير والقراءة والكتابة. وهذا لم يكن متاحًا، لكن من ناحية أخرى، هذه الضغوط نفسها طوَّرت لدي مهارات ما كان ممكنًا أن أتصوّرها قبل سنوات؛ فأصبحت أعمل وأقرأ وأكتب تحت الضغط. ارتفعت إنتاجيتي وقلّ الوقت الذي أحتاجه للإنتاج، ازدادت شجاعتي؛ فاندفعت إلى مجالات عمل مختلفة. لكن في النهاية، وعلى الرغم من الأخطاء والعثرات الكثيرة التي ارتكبتها في الحياة والعمل، أشعر بالرضى؛ فقد بدأت من الصفر، وتعلمت الألمانية والفرنسية. ودرست البكالوريوس والماجستير، والآن في مرحلة الدكتوراه. أنجزت أربع ترجمات ونشرتها، وكتبت عددًا كبيرًا من المقالات والأبحاث المحكّمة. شاركت بمؤتمرات عديدة، وحرّرت المواد المكتوبة.
وفي مجال الصحافة والإعلام، أعددت وقدمت حتى هذه اللحظة، 125 حلقة (بين حلقات تلفزيونية وبودكاست). كل حلقة من هذه الحلقات بمنزلة مقالة فلسفية/ثقافية طويلة، لا يقل عدد كلمات الحلقة الواحدة عن 1500 كلمة. وحاورت كبار الفلاسفة والمفكرين العرب. ومع البودكاست الجديد الذي أقدّمه باللغة الإنكليزية في منصّتي الخاصة، أحاور اليوم كبار الفلاسفة والمفكرين الغربيين، ويحتاج إعداد الحلقة الواحدة قراءة عشرات الكتب وكتابة نصوص كثيرة.
الفلسفة لماذا؟
4- قد يكون هذا السؤال مستهلكًا بعض الشيء، لكن في الحقيقة لا يمكن تجاوزه، لماذا اخترت الفلسفة؟ أو بمعنى أدق، هل دراسة الفلسفة هي غاية بالنسبة لك؟ أم أنها النافذة التي تطلين منها على عوالم أخرى؟ وأيضًا ما الذي يجعل الفلسفة، برأيك، شأنًا مستمرًا، وما الذي يجعلها أكثر قابلية للفهم من قبل عامة الناس، وبالتالي أكثر تأثيرًا؟
قد تكون إجابتي أيضًا مستهلكة ورومانسية بعض الشيء، لكن الفلسفة هي التي اختارتني، لم أخترها. لم أخطِّط لذلك، قرأت الفلسفة، وكان تفكيري فلسفيًا منذ الصغر من دون أن أعرف. وفي لحظة معينة وجدت نفسي متورّطةً في الفلسفة، وبالقرب من مدينتي في ألمانيا توجد جامعة ذات تاريخ فلسفي طويل؛ فاتخذت قرار الدراسة في هذه الجامعة. في البداية قاومتُ رغبتي في دراسة الفلسفة، وجدته قرارًا جنونيًا لا معنى له، ولا مستقبل له، ولا أمان فيه.
حاولت أن أسلك سبل عمل ودراسة مختلفة، لم أتمكن، ولم أنجح. كنت أشعر بتمزق داخلي كلما حاولت ممارسة عمل آخر أو دراسة شيء آخر. وحين اتخذت قرار دراسة الفلسفة، شعرت بالراحة، وكأنني وجدت ضالتي أخيرًا، وعاهدت نفسي بأنني سأستمر فيها. بالنسبة لي، الفلسفة ليست مجال دراسة؛ الفلسفة هي الحياة نفسها، فيها ومن خلالها أشعر بأنني كائنة، موجودة، حيّة، وحرّة فعلًا.
أما بالنسبة لقابلية الفلسفة للفهم؛ فهذا ليس ضروريًا أو واجبًا، لكن من يرغب في فهمها سيفهمها، وهذه ليست مسؤولية الفلسفة؛ بل مسؤولية الشخص نفسه. ربما هناك فلسفات تُقدَّم بطريقة بسيطة لتجعلها أكثر قابلية للفهم، لكنّ هناك ثمنًا يُدفَع مقابل التبسيط، ويبقى الأمر في النهاية متوقفًا على الشخص نفسه.
5- الصحافة الفلسفية مصطلح تستعملينه دائمًا؛ فماذا تقصدين بهذا المصطلح، وما مشاريعك بخصوص هذا الأمر؟ ولماذا الأمر مهم بالنسبة لك؟
نعم، أستخدم هذا المصطلح، وأدافع عن أهمية وجود صحافة فلسفية، كما أدافع عن فلسفة مخبرها ليس الجامعة؛ بل الشارع، الصحافة، السياسة، الثقافة، وعن فلسفة تحتك باليومي والمعتاد، وتتطلب مهارات غير فلسفية. بالنسبة للصحافة الفلسفية، هناك كثير من الفلاسفة الذين مارسوا هذا العمل. النقد الفلسفي مثلًا ضروري جدًا في الصحافة، ويساعد في تحليل الواقع والخبر اليومي بطريقة مختلفة. تساعد الصحافة الفلسفية في تشكيل قارئ مختلف، قارئ إيجابي يتفاعل مع الخبر، لا مجرد متلق سلبي للخبر.
من ناحية أخرى، الصحافة والإعلام بصورة عامة يتطلبان مهارات غير فلسفية تناقض الفلسفة تناقضًا صارخًا. الفلسفة بطيئة ومتأنية، الصحافة سريعة وتعتمد على البديهة. الفلسفة تتعامل مع الحقيقة، الصحافة تتعامل مع الراهن. الفيلسوف جمهوره فلاسفة، الصحفي أو الإعلامي جمهوره عامة الناس. لكن هذه الفجوة يجب ردمها بدرجة ما، ووجود صحافة فلسفية هو ما يساعد في ردمها.
6- هل العالم اليوم على الصعيد العربي بحاجة إلى الفلسفة الغربية؟ وهل لدينا فلسفة عربية؟ مع توضيح السبب كانت الإجابة بنعم أو لا؟
نعم، أعتقد أننا في حاجة إلى الفلسفة الغربية، ولا يمكن إنتاج الفلسفة بمعزل عنها. كل إنتاج هو تفاعل. ولا يمكن أن يتفاعل الشيء مع نفسه، أو أن يختار ببساطة تجاهل الإنتاج الفلسفي الغربي. وهذا رأي شخصي، لكن هذا لا يعني قبول ما قدّمته الفلسفة الغربية قبولًا كاملًا؛ بل يعني القبول والرفض والنقد والإضافة، ولا يتناقض هذا الأمر مع إنتاج فلسفة خاصة أو خصوصية؛ بل هذه هي الطريقة الوحيدة لإنتاج فلسفة خاصة.
7- هل تعتقدين أن هناك توجهًا عربيًا وربما عالميًا للترويج لنوع معين من الثقافة؟ وهل هذا التمييع المقصود للذائقة يؤثر على العمل الجاد والحقيقي ويخفف من قدرته على التأثير؟
لا شك أنه موجود، وهو ما يُسمى بصناعة الثقافة، ويرتبط بالآلة الرأسمالية العالمية، وهو جزء أيضًا مما تروّجه الأنظمة السياسية العربية لغاياتها في كل منطقة أو دولة على حدة. لكن لا أعتقد أن التركيز على هذا الأمر مجدٍ. ما نحتاجه هو الإنتاج الثقافي والفلسفي والفكري على الرغم مما يحدث محليًا وعالميًا. الاستسلام لهذا الواقع يزيد من حدّته. أما بالنسبة لتأثيره على العمل الجاد؛ فهو يؤثر، لكن شخصيًا لا يهمني تأثيره.
أرى أن العمل الحقيقي والجاد يبرز وحده ولا يمكن حجب وهجه واتقاده. المشكلة لدينا هي مشكلة مؤسسات. المثقف في حاجة إلى مؤسسة تدعمه، لينتج وينشر ويكتب فيها. المثقف الحقيقي في رأيي غير معنيّ بالتمييع السائد ومنافسات السوق الثقافية.
النسوية من منظور فلسفي
8- قد يكون من الصعب تجاوز الحديث عن النسوية، في أحد حواراتك قلت إنك تتناولين النسوية من منظور فلسفي؛ فهل يمكن أن توضحي لنا الفرق في التعاطي مع النسوية من هذا المنظور عما هو سائد من تعاطٍ معها؟ وهل ترين أن الحراك النسوي العربي بدأ يتشتت ويحيد عن قضايا مجتمعه الحقيقية ويتجه أكثر للتركيز على قضايا ومشاكل نساء المجتمع الغربي، أو مشاكل بعيدة عن واقع المرأة العربية؟
التعامل مع النسوية من منظور فلسفي بالنسبة لي، يعني عدم التسليم، أو عدم تبني، كل ما تقدّمه النسوية من أفكار ونظريات، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الكبرى بين نظرية وأخرى. هناك السلبي السائد، والإيجابي السائد من النسوية. الإيجابي طبعًا هو الدفاع عن حقوق المرأة والوقوف في وجه العنف والتحرش والتحكم. أما السلبي؛ فيمكن وصفه بالقول إنه التعامل مع النسوية بطريقة وضعية، ثابتة مقدّسة؛ “المساواة هي كذا، الذكورية هي كذا، الجندر هو كذا،…” بهذه البساطة تُختَزَل الأمور، وهنا المشكلة؛ فإنْ كانت القضية محقة والمشكلة واضحة؛ فهذا لا يعني أن الحل بسيط وواضح، ولا يعني أن الحل المثالي ممكن، ولا يعني أن تغيير المنظومات يمكن أن يحدث بين ليلة وضحاها، وليس ضروريًا أن يكون “قلب” المنظومة (الذكورية أو غيرها) رأسًا على عقب، أو تخريبها أو تدميرها بالمطلق هو الحل. وما يمكن حلّه بسهولة في مستوى الوعي، ليس سهل الحلّ في مستوى اللاوعي.
الفلسفة بين الترجمة والبودكاست
9- عشر سنوات من العمل في ترجمة جوديث بتلر. لا يمكننا حقيقة إلا الوقوف أمام هذا العمل المضني والشاق، وبالتالي سؤالك عنه؛ فهل تعتقدين أن مثل هذه المشاريع الثقافية تستهلكك؟ وهل من الممكن تكرار التجربة مع كاتب آخر؟ ولماذا كان الاهتمام بجوديث بتلر دون غيرها؟
كانت ترجمة بَتلر فعلًا منهكة، ولا أعتقد أنني سأكرر التجربة مع كاتب آخر. أودّ في المرحلة الحالية التركيز على الكتابة الأكاديمية والحوارات التي أجريها مع الفلاسفة والمفكرين في البودكاست الذي أقدمه. الاهتمام بجوديث بَتلر جاء من الاهتمام بفلسفتها قبل سنوات كثيرة. أحببت لغتها وأسلوبها والموضوعات التي تتناولها. عُرِضت عليّ في البداية ترجمة كتابين لها، ثم اخترت بنفسي كتابين آخرين وترجمتهما. وعلى الرغم من أنني لست “بَتلرية” ولا أتفق مع بَتلر في جوانب كثيرة، أرى بَتلر فيلسوفة من الطراز الرفيع، وأحترمها بشدّة.
10- في هذا السياق هل يمكن التطرق ولو قليلًا لترجمتك كتاب نقد الصهيونية، وأسباب اختيارك لهذا الكتاب كان لرؤية ما، أم فقط ضمن مشروعك الخاص بترجمة كتب بتلر؟
الكتاب كان من اختيار دار النشر (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات). قبل هذا الكتاب ترجمت مقالة لجوديث بَتلر، ومع ترجمة هذا الكتاب، قررت الاستمرار في ترجمة كتب بَتلر. لكنني طبعًا كنت سعيدة باختيار دار النشر ترجمة هذا الكتاب ونشره؛ فهو يبيّن أن هناك نقدًا للصهيونية من داخل اليهودية نفسها، ويميز بين معاداة السامية ونقد الصهيونية، لكنه كتاب ذو طابع سياسي في النهاية. أما مشروعي الخاص في ترجمة بَتلر فهو مشروع يستهدف جوديث بَتلر الفيلسوفة، ونظريتها في الذات والرغبة والسلطة والإخضاع والعنف، وليس بَتلر الناشطة السياسية، أو المنظّرة في الجندر. ولذلك، لم أترجم كتبها الأشهر التي تناقش قضايا السياسة والجندر.
11- حسب ما ذكرت على صفحتك الشخصية على فيسبوك، أنك بدأت بالتحضير لحوار مع سلافوي جيجيك منذ ثلاث سنوات، وذكرت أيضًا بمعرض كلامك أن بعض الصعوبات قد واجهتك؛ فهل يمكن أن تحدثينا عن هذه التجربة بشكل عام؛ عن كواليسها وخصوصية الضيف المثير للجدل، وكيف تستطيع “نور” التعامل مع عواطفها عندما يكون السؤال حساسًا كما كان الأمر بالنسبة لسؤالك له عن القضية الفلسطينية؟
بدأت في إعداد هذا البودكاست قبل سنوات، لكنني أجّلت التنفيذ بسبب ضغط العمل والدراسة. لكن هذا العام شعرت أن الوقت قد حان للبدء في المشروع. لكن طبعًا كان التنفيذ أصعب مما توقّعت بكثير؛ إذ يستغرق إعداد الحلقة الواحدة ما يزيد على العشرين يومًا (قراءة الكتب، تلخيص، إعداد الأسئلة، إعداد المقدمة والشرح، التواصل مع الضيف والتنسيق معه، التنسيق مع المصور، تصوير، تحرير، تنسيق فني، ترجمة من وإلى العربية). الحلقات ليست عفوية، كل ما في الحلقة مُعَدّ مسبقًا ومُخطَّط له بدقة؛ فالهدف ليس إجراء الحوار وحسب؛ بل محاولة تقريب الأفكار وشرحها، وتناول القضايا التي تمسّ العالم العربي. وهذا عمل عادة ما يقوم به فريق كامل، وأنا أفعل ذلك وحدي تقريبًا. بالإضافة طبعًا إلى صعوبات أخرى كالتكلفة المادية والإنهاك الجسدي.
بالنسبة لحلقة جيجيك؛ فأنا أتابع جيجيك وكتاباته وأفكاره منذ سنوات، وقد التقيت به عدة مرات، ونشرت معه مادة بحثية في كتاب مشترك يجمع عددًا من الفلاسفة والباحثين. لذلك، كانت معرفتي بكتاباته وأعماله عامِلًا مساعِدًا في إنجاز الحلقة.
أما بالنسبة للعواطف؛ فالبودكاست ليس مكانًا للعواطف. اللحظات الحارة لها مكان آخر. في النهاية، لستُ “أنا” التي أحاور الضيف، والأسئلة التي أطرحها على الضيف ليست أسئلتي الخاصة. البودكاست ليس لقاءً شخصيًا يجمعني بالضيف. في البودكاست، أعدّ نفسي مجرد واسطة لنقل أسئلة الآخرين وطرحها على الضيف.
12- تتعدد الوسائط التي تعرضين أفكارك بها خلال البودكاست أو اليوتيوب، وحتى الكتابة. كيف تختلف التجربة من وجهة نظرك عبر كل وسيط؟ وما ميزة كل وسيط عن الآخر؟ وأيًا من هذه الوسائط الأقرب لك؟
أعتقد، وهو مجرد رأي شخصي، أنه لم يعد ممكنًا في هذا الزمن تجاهل دور وسائل الإعلام الرقمية الجديدة. لذلك، أجد أنه من الضروري جدًا فهم أدوات هذا العالم الرقمي الجديد وتعلّم مهارات مناسبة له. شأنها شأن الكتابة الأكاديمية أو الكتابة الصحافية التي نتعلمها في الجامعات، تعلّم كتابة المادة البصرية والسمعية مهم جدًا، وفهم آليات عمل المنصات الرقمية مهم أيضًا. تبقى كتابة المادة الأكاديمية مختلفة تمامًا عن كتابة المادة الإعلامية. لكن في النهاية، أقرب الكتابات إلي هي الكتابة الفلسفية، التي تختلف عنهما كلتيهما. الكتابة الفلسفية يضبطها منطقها الخاص بها وحدها، والذي يخرج بانسياب من داخلها. لذلك -في رأيي- تبقى هي الأصدق والأدق، والأكثر حرية من جهة، والأكثر جدية واحترامًا للقارئ من جهة أخرى، وهي الأقرب إلى قلبي والأسهل بالنسبة لي.
بين الفلسفة والدين
13- العلاقة بين الفلسفة والدين علاقة تضاد أم تكامل واحتياج؟ وهل يمكن أن يقف التدين عائقًا أمام الانفتاح الفكري الذي تتطلبه الفلسفة؟
لا يمكن الحديث عن علاقة الفلسفة بالدين بشكل مجرد. صحيح أن سؤال الفلسفة يتشابه وسؤال الدين من حيث إنه سؤال وجودي ذو بُعد نفسي؛ فهذه النظرة، على الرغم من صحتها، اختزالية بشدة، لأنها تغفل عن البُعد الآخر للسؤال نفسه؛ وهو البُعد السياسي. تبقى الفلسفة أكثر مقاومةً للبعد السياسي؛ إذ يصعب تثبيت جوهر أو قاعدة أو نسق لها، حتى وإن تحوّلت إلى فلسفة سياسية أو تمأسست، يبقى نسقها تاريخيًا متغيّرًا. في حين أن الدين في الجزء الأكبر منه يقوم على تأسيس قاعدة ثابتة، تمأسِس الدين، وتقلِّل مباشرة من ديناميكيته، وتُخضِع الثقافي فيه إخضاعًا مباشرًا للسياسي
.
“يمكن أن تكون العلاقة بين الفلسفة والدين علاقة تضاد، ويمكن أن تكون علاقة تكامل. الفلسفة ليست واحدة ولا هي في مستوى واحد. وشخصيًا لا أعتقد أن “التدين” في حدّ ذاته يقف عائقًا أمام الانفتاح”
.
من ناحية أخرى، على الرغم من الاعتراف بديناميكية الدين، أي “لاجوهرانيته”؛ فهذا لا يعني إطلاقًا أن الأديان متساوية، ويمكن الحديث عنها جميعها بالطريقة نفسها. فعلى عكس النظرة الشائعة المناهضة للجواهرانية، الاختلاف بين دين وآخر يكون في هذه الـ “لا جوهرانية” نفسها؛ في هذه الـ “ديناميكية”. ثمة أديان في مراحل تاريخية معينة وصلت إلى ديناميكية جيدة، وسمحت بـ “إطلاق” القاعدة بدرجة ما، لكن هذا يأتي بعد الانتصارات السياسية والنهوض الاقتصادي وبأثر رجعي. يخفت صوت السياسي بعد الانتصارات السياسية.
لكن يظلّ هناك ما أحب أن أسميه بـ “لاحقيقة”، أو “فجوة” الدين التي تخفيها القاعدة الدينية. مع الانهزامات تُحجَب هذه الفجوة وتُردَم بأفكار ثقافية دوغمائية مختلفة. مع الانتصارات تُفتَح هذه الفجوة بدرجة ما فتسمح بإنتاج أشكال معينة من الحريات والفلسفات.
ما يعني عدم إمكانية الحديث عن الفلسفة أو الدين بتجرد أو انفصال عن تاريخها ومكانها والظروف السياسية الاقتصادية والثقافية التي نشأت في ظلّها. معظم الفلسفات خرجت من الدين والأسطورة، بوصف الفلسفة حركةً متقدَّمة على الدين، كحركة نفي (العلم وفلسفة العلم)، أو إثبات (فلسفة الدين واللاهوت)، أو نفي وإثبات في الآن معًا (ميتافيزيقية ونقدية)، والديناميكية مستمرة. لكن الحركات هذه جميعها يمكن أن تصبح رجعية في النتيجة إن توقّفت؛ فحركة النفي وحدها مثلًا، تصبح إلحادًا دوغمائيًا، أشد انغلاقًا من الدين نفسه إن توقّفَ عن الحركة والتفاعل. وحركة الإثبات وحدها يمكن أن تلتحم بأفكار قومية وأصولية وطبيعانية وتصبح خطرة. وحركة النفي والإثبات، إن ثُبِّتت بوصفها حركة واحدة ولم تُفهَم بوصفها عملية مستمرة، تغدو شمولية تلتهم كل شيء.
إذًا، يمكن أن تكون العلاقة بين الفلسفة والدين علاقة تضاد، ويمكن أن تكون علاقة تكامل. الفلسفة ليست واحدة ولا هي في مستوى واحد. وشخصيًا لا أعتقد أن “التدين” في حدّ ذاته يقف عائقًا أمام الانفتاح. ما يقف عائقًا أمام الانفتاح هو تثبيط ديناميكية الدين وتثبيت قاعدته، وإفقار حامليه نفسيًا وعقليًا وماديًا.
14- تحدثت عن الذكاء الاصطناعي والدين في لقاءات عديدة. من العطف بين هذين المصطلحين؛ هل يمكن أن تقربي لنا قليلًا العلاقة بينهما، وكيفية أثر الذكاء الاصطناعي على الدين من وجهة نظرك؟
على الرغم من أن العلم والدين على طرفي نقيض، ولكل منهما أدواته ومفرداته وطريقته في مقاربة الحقيقة واكتساب المعرفة، يصعب الحديث عنهما دون الانطلاق أولًا من الأسئلة التالية: أي علم وأي دين هذا الذي نتحدث عنه؟ هل “المعرفة” شأن علمي أم ثقافي؟ هل تخلو الثقافة من العلم؟ والسؤال الأهم هنا: هل العلم نفسه يخلو من الثقافة؟ والإجابة عن هذه الأسئلة ليست سهلة أو مباشرة.
ومع أخذ إجابتي عن السؤال السابق في الحسبان (لأنني تطرقت إلى علاقة العلم بالدين سريعًا)، يمكن القول إنه لا يمكن اختزال “المعرفة” في “العلم”، على الرغم من أن العلم اليوم يطالب بأحقية المعرفة لنفسه، ويحدث هذا الأمر بالتزامن مع تراجع دور الثقافة، وهذه مشكلة حقيقية. إن اختزال سؤال المعرفة في إجابات العلم (وفي تطبيقات الذكاء الاصطناعي) لا ينم إلا عن جهل بآلية عمل هذه التطبيقات وبأساسيات العلم ومقدّماته، ولا يحدث هذا الاختزال إلا بتجاوز سؤال المعرفة في علاقته بالعلم: “ماذا يمكن للعلم أن يعرف؟”
لكن المشكلة في الحقيقة هي أيديولوجية في عمقها أكثر منها إبستمولوجية؛ فنسبة كبيرة من المتوجهين نحو العلم ينطلقون من رفض الدين (كحركة نفي للدين)، ما يجعل تعاملهم مع العلم (ومع تطبيقات الذكاء الاصطناعي) قائمًا على مسلّمات وأفكار سائدة حول العلم والطبيعة، وهي أفكار غير دقيقة إطلاقًا، والعلماء أنفسهم غير متفقين حولها، ويسهل تحوّلها إلى دوغمائيات نمطية ومتكررة. وهذا التسليم بالعلم يشبه في جوهره التسليم بالدين الذي يخلو من المساءلة والتشكيك والنقد. وتتفاقم المشكلة في مجتمعاتنا، تحديدًا التي تعاني من التطرف الديني وطغيان المؤسسة الدينية؛ حيث يُفهَم هنا كل نقد للعلم على أنه دفاع عن الدين، وهذا طبعًا غير صحيح. أرى شخصيًا أن الدفاع عن العلم يقتضي نقده، وفهمه في سياقاته الكبرى، وتحديد قدرته ودوره، بدقة شديدة في مقاربة الواقع. ولا يمكن تجاوز هذه النقطة بحجة التخلص من التطرف الديني أولًا، ثم التخلص من التطرف العلمي. هذا تبسيط شديد لمشكلة معقّدة لا تُحلّ بهذه الطريقة.