محمود الوهب
تكرِّس “ناديا خوست” الكاتبة السورية التي فرضت نفسها وصية على آثار مدينة دمشق وأحيائها القديمة مقولةً درج عليها بعضٌ ممن يمجِّدون الديكتاتورية، والحكم الفردي المطلق، منذ أيَّام حافظ الأسد إلى ابنه الوريث، وهي: أنَّ “الديكتاتور وطني ومخلص، لكن العلَّة في من حوله..”
كان الممجدون يبرِّرون لحافظ الأسد تردِّي الوضع الداخلي الاقتصادي والمعيشي بأن اهتمامه كان منصبَّاً على متابعة السياسة الخارجية، ليحافظ على الموقف “الوطني”، ويصدَّ “تآمر العالم” عن سورية، وكان أحد قادة أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” يهدئ بعض أعضاء حزبه، ممن لا تروق لهم سياسة حزبهم تجاه الفساد، وبؤس أحوال الشعب بقوله: “لو كنَّا ننطلق من الأوضاع الداخلية لكنا في المعارضة حتماً” هكذا بكل مخاتلة، وكأن سورية دولة ديمقراطية يسمح فيها لأحزاب معارضة، وكأنَّ الموقف الوطني منفصل أيضاً عن أبسط حاجات الشعب!
اليوم يقول هؤلاء وورثتهم عن ابنه، بأنه مخلص وطيب، ويقود معركة “وطنية ضد الفساد، والإرهاب”.. لكن الواقع غير ذلك وسأورد بعض القصص لنرى أين يكمن الفساد الحقيقي:
في إحدى الزيارات الرسمية للرئيس السوري بشار الأسد خارج سوريا، رأى أحد مرافقيه الوزراء استغلال قربه منه الرئيس، أن يعرض عليه مشكلة تتعلق بالمهندس “قيس الأسد” من أولاد عمومة الرئيس، وكان مديراً لمؤسسة استصلاح الأراضي.. وما إن بدأ الوزير بمخاطبة الرئيس ذاكراً اسم المهندس، ونسبته، ووظيفته حتى بادره “الرئيس” بقوله:
– “أحقاً لي قريب مهندس، ومدير أيضاً.. جميل، والله، أنا لا أسمع أخباراً تخصُّ أقربائي إلا حول إثارة مشكلات، وإزعاج الآخرين. هات نورني..”
– أوردت هذه الحادثة كما حكيت أمامي بدقة، لأقول أمرين، أولهما: إن الحكم أميل إلى نظام الأسرة، وأن اسم أيِّ واحد منها يشكل رهبة للسوريين حتى وإن كان وزيراً، وهذا لا يعني أنَّ وجوهاً من الطائفة استثمرت في الجيش وأجهزة الأمن حفاظاً على سلطة الأسرة، مقابل أطلاق أيديها في أملاك الدولة، وأموال الشعب! وثانيهما: أن الفساد، وتحديداً تجارة الممنوعات، بدأت منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، أي منذ أن استباح الجيش السوري دولة لبنان، ومن عاش تلك الفترة، لايزال يذكر كيف افتتح رفعت الأسد سوقاً للمهربات من لبنان على أرض اقتطعت من أملاك الدولة أو غيرها على أوتوستراد المزة، في منطقة “السومرية”!
– في حديث لي عن حال سورية وشؤونها، وكمِّ الفساد الحاصل في أركانها، ومفاصلها الرئيسة، مع أحد قياديي الحزب الشيوعي السوري الموحد، أشار إلى ما باح به أمامه أحد أثرياء مرحلة حافظ الأسد عن حياة البؤس التي عاشها في طفولته، ومن ذلك، أنَّه كان يذهب إلى المدرسة الابتدائية حافياً! يعلَّق ذلك القيادي بقوله “اليوم لديه ميناء خاص على الساحل السوري!” بالطبع لم أسأله عن اسم الشخص، لكنني أقدر أنه جميل الأسد الأخ الأكبر لحافظ.. وربما كان هناك أكثر من ميناء..
– في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي شكَّلت الحكومة السورية لجنة أسمتها لجنة الكسب غير المشروع.. وأوكلت أمرها إلى “أحمد دياب” عضو القيادة القطرية لحزب البعث، وقيل يومها أنه حزبي موثوق، ومشهود له بنظافة اليد! وبالفعل انتهت اللجنة، بعد فترة وجيزة، إلى أنَّ “دود الخل منه وفيه!” إذ وضعت يدها على شبكة فساد كانت وراء صفقة شاحنات صغيرة (سوزوكي) تعود لشركة “هدايا” التي كان لرفعت الأسد حصة فيها.. حينذاك انتحر أحد أطراف الشبكة بإلقاء نفسه من الطابق الرابع! ولتموت اللجنة بوثائقها معه. ولا أحد، في الحقيقة، يعرف هل انتحر ذلك الفاسد الشريك فعلاً، أم إن جذور انتحار محمود الزعبي، وغازي كنعان بثلاث رصاصات في الرأس، يعود إلى ذلك الزمن..
– الصحفي و”اليوتيوبر” “ماهر شرف الدين” أشار في قراءته لنتائج الشهادة الثانوية السورية، إلى ما خلفياتها فقال: إن واحداً وعشرين طالباً من بين ثلاثة وثلاثين نالوا العلامة التامة في الشهادة الثانوية لدورة العام الحالي 2023 هم من محافظتي اللاذقية وطرطوس، وتساءل أين هم إذاً بقية طلاب سورية؟! ويتابع فيقول: اللافت أكثر، أن ثمانية من هؤلاء قدموا امتحاناتهم، في قاعة واحدة.. نعم في قاعة واحدة! لا في مركز واحد. ورغم ذلك تراهن الكاتبة، المشار إليها، على “مؤسسة الرئاسة السورية” في حماية التعليم وسواه.. فتقول:
“بعد اثنتي عشرة سنة من الحرب، نحتاج تثبيت سلطة الدولة حامية التعليم والاقتصاد الوطني والصحة والثقافة والإعلام. وحل مشكلة التناقض بين النهج السياسي الوطني الذي تحمله مؤسسة الرئاسة السورية في اتجاه روح العصر، وبين نهج الحكومة، والفئات الحزبية التي تجسِّد الجانب الذي يطوى من التاريخ الإنساني”.
إن الكاتبة تَفْصِلُ بين القصر الجمهوري، بمن يمثله، وبين الحكومات السورية المتعاقبة، وكأن الحكومة السورية ينتخبها الشعب، لا يعيِّنُها الرئيس كما يعين القيادة القطرية لحزب البعث! وكأن الرئيس الوريث لم يأمر جيشه ذي “الأساطير والصمود” (الوصف للكاتبة) بإطلاق النار على الشعب لأنه طالب بحرية ما، وبانتخابات حرة يكون لها دور في محاسبة الحكومة والرئيس ذاته!
– يرى عبد الرحمن الكواكبي في بحث الاستبداد والمجد من كتابه طبائع الاستبداد أن المستبد: “يتخذ المتمجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين أو حب الوطن” فيقول في المبحث ذاته: على لسان المُمَجِدِين (المنافقين)، وهم يوجهون خطابهم للمستبد وهو على كرسيِّ عرشه:
“والله ما مكَّنَك في هذا المُقَام، وسلَّطك على رقاب الأنام، إلا شعوذتنا وسحرنا، وامتهاننا لديننا ووجداننا، وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظر أيها الصغيرُ المُكَبَّر، والحقيرُ المُوَقَّر، كيف تعيشُ معنا..”
وأختم بحادثتين معروفتين: تؤكد الأولى أن رأس الدولة هو المسؤول دائماً عن سير بلده صواباً أو خطأ.. فرئيس ماليزية السابق “مهاتير محمد” نقل بلاده من التخلف إلى التقدم، خلال عقدين من الزمن، معتمداً على التعليم بالذات! وبعد استقال، طوعياً، بسنوات، ظهر فساد في البلاد، فأعاده الشعب إلى الحكم، وكان قد تجاوز التسعين، وفقط خلال أسابيع استطاع استردّاد مليارات الدولارات المنهوبة من رأس الحكومة آنذاك أو بعلمه!
أما الحادثة الثانية ففي سورية تنبه بعض من الشباب السوري (شباب 10 آب) أمر المسؤول عن تعاستهم فأصدروا بياناً وجهوه إلى الرئيس نفسه طلبوا تحديد زمن ما لإصلاح أوضاعهم المعيشية والخدمية! (اقتناعاً منهم بأن المشكلة عند الرأس) وجاء جوابه برفع الدعم عن بعض المواد ولذلك قرروا اتخاذ اجراءات للوصول إلى حقهم، سلمية طبعاً، وسيفصحون عنها..
بقي أن أؤكد أنَّ الحرائق بدءاً من حريق سوق البزورية، إلى سوق ساروجة، وحرائق الغابات. وما ومن خلفها؟! هي مسؤولية القصر الجمهوري لا غير، فمن حرق الكل لن يقف عند الجزء..