إبراهيم الجبين
المرتكز الأساس للحديث عن الثورة السورية، هو رنوّ الملايين من السوريين الذين آمنوا بها وانخرطوا في يومياتها ومنعرجاتها نحو الحرية، والمزيد من الحرية. وحتى يكون لهذا الكلام من معنى على أرض الواقع، عليه أن يُترجم على شكل فعاليات وأنشطة إنسانية وإنتاج يعكسه، كي لا يبقى تجريداً في الفراغ.
من أهم ما في حرية التفكير من “بَرَاح” أنها تتيح لك وللآخر أن تريا المشهد من زاويتين مختلفتين، كل منكما ينظر إليه بقدرات بصره وبصيرته، بذاكرته الذاتية وميوله والمشارب التي أتى منها، بعد ذلك، لا يصحّ أن تنتظر من الآخر أن يقدّم سردية عن المشهد إياه تطابق سرديتك، ويزداد الوضع تعقيداً حين تتحدّث عن ملايين الأشخاص، لا عن اثنين وحسب.
هكذا تصبح القصة مختلفة عمّا يدور من حديث عن “الجريمة الشنيعة” التي اقترفها المشرفون على أصحاب “الذاكرة السورية” بإطلاق هذا المشروع بحسب ما يقول البعض، في مشهد هو باختصار كل ما جرى ويجرى في مسارات الثورة السورية العظيمة منذ انطلاقتها وحتى تاريخ كتابة هذه السطور.
إن رصد كمّ البيانات والمعلومات والقصص والخرائط والأرقام والشخصيات والأحداث المتصلة بثورة السوريين، أضخم من أن يحتكره أحد، لذلك اختار مشروع الذاكرة السورية، كما يمكن لي أن أتخيّل، أن يجعل معطياتها “تراكمية”، تنمو وتتطوّر ويجري تنقيحها مع الوقت، حتى تصبح فضاءً تفاعلياً واسعاً، صحيح أن قواعد البحث العلمي تحكمه وتضبط مقاصده ومآلاته، لكنه، وفي الوقت ذاته، ابن عصره ولحظته التي تفرض الاستناد إلى أدوات تقنية متقدّمة في تحليل ودراسة وإنتاج بياناته.
مشروع من هذا النوع يبدو أكثر من مجرّد وظيفة لتأسيس موقع إلكتروني أو إصدار بضعة مطبوعات، في الواقع هو ردٌّ حقيقي يحمي هذه الثورة، بتفاصيلها الهائلة، من الاندثار والزوال.
ماذا يُحدِثُ فعلٌ هكذا من تفاعل لدى الرأي العام السوري؟ من الطبيعي أن يتباهى أصحاب مشروع الذاكرة بأنهم لم يصنعوا سِفراً ضخماً عن ثورة السوريين وسوريا وتاريخها وحسب، بل أتاحوا فرصة للسوريين كافة، كي يستعيدوا ذاكرتهم ويصقلوا ما تشوّه منها على أيدي أعدائها من جهة، وعلى أيدي العشوائيين من جهة أخرى، فهي إذاً فرصةٌ لإعادة بناء الذاكرة عبر التحاور والتقويم والنقد (حتى المتوتّر منه) تؤكد مجدداً، أن الذاكرة السورية مثلها مثلُ الشخصية السورية، حيّة وحارّة بما يكفي لضخ الهواء من جديد في الرئتين، كلما ذوت ثورتهم وظنّ العالم أنها هُزمتْ وتعفّنتْ واستنقعتْ وانتهى الأمر.
ما هو رد الفعل الآخر المتوقّع من السوريين وهم يراقبون مجموعة عمل “خاصة” تتبع لجهة “خاصة” هي المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (مؤسسة بحثية فكرية مستقلة) تنتج “ذاكرة للثورة السورية” من البديهي أن تكون “خاصة” بدورها؟ كرّرتُ كملة “خاصة” خلال الثواني الماضية أكثر من مرّة للتذكير بأن أحد أكبر مواجع السوريين تأثيراً على تفكيرهم في الوقت الراهن، هو افتقادهم لدور الدولة الراعي، الدولة الأم، الدولة السورية التي كانوا ينتظرون منها أن تقوم هي بتنفيذ مثل هذا المشروع؛ توثيق الذاكرة. هذا الدور الذي كانوا في ما مضى يكافحون من أجل خلق توازنٍ ما يحفظه ويصونه، حتى في صبره السوريين الطويل على الاستبداد في عهد الأسدين وما قبلهما، أو في تقلباتهم كمجتمع قَبِلَ ورَضيَ بالانخراط في الفساد بدلاً من الاحتجاج عليه، فإذا شاءت الأقدار وحصل الانفجار الشعبي الكبير كما جرى في العام 2011، وجدوا أنفسهم في مواجهة دولةٍ يخطفها الاستبداد والفساد رهينة، حتى إذا اضطروا إلى مقاومة عنف ووحشية الاستبداد وحملتهم ظروفهم إلى أصقاع الأرض، عادوا وبحثوا عن ذلك “الدور المفقود” للدولة في أي ظاهرة تقع عليها أعينهم إن تشابكت مع الشأن السوري العام.
الخلط إذاً بين ما تتيحه حرية المشروع الخاص/ القطاع الخاص، وما هو مقيّد بكونه مشروعاً عاماً/ قطاعاً عاماً، يتسبب بمطالبة أي جهة تعمل على ما يشبه مشروع الذاكرة، بأن تكون مثل وزارة التربية أو وزارة الثقافة، وأن عليها أن تكون خاضعة لمعايير السلطة الشعبية التي لم تُمارَس يوماً في الدولة المنتظرَة التي لم نرها في الحقيقة في أي يوم من الأيام، والتي هي ويا للمفارقة، هدف الثورة السورية وثوّارها أجمعين.
مشروع من هذا النوع يبدو أكثر من مجرّد وظيفة لتأسيس موقع إلكتروني أو إصدار بضعة مطبوعات، في الواقع هو ردٌّ حقيقي يحمي هذه الثورة، بتفاصيلها الهائلة، من الاندثار والزوال. وهذا كلّه قبل الدخول في مناقشة المحتوى الذي سيكون بالضرورة إشكالياً، بقدر ما هي ثورة السوريين إشكالية بامتياز، إشكالية بالتباس أسبابها، وبظروف اندلاعها، وإشكالية في ردود فعل العالم عليها، وبالطريقة التي تركت فيما تعرف باسم “الأسرة الدولية” جزاراً مثل بشار الأسد يقتل الأبرياء ويهدم القرى والمدن ويستخدم السلاح الكيماوي المحرّم، دون أن تحرّك ساكناً لمنعه من مواصلة مجازره. إشكالية في انقساماتها، وإشكالية في رؤاها المستقبلية، كما هي سورية كلها إشكالية في مجتمعها المتناقض المتعايش الذي أراد له الاستبداد أن يكون “متجانساً” بلون ولاء واحد وبمستوى وعي واحد.
المحتوى الذي يطيب لأهل هذا الزمان أن يطلقوا عليه تعبير “داتا” هو حزمة الشيفرات التي على السوريين أن يمعنوا النظر فيها جيداً، ففيها انشطار الأسرة بين اتجاهات وتيارات فكرية متعددة، وبالتالي بين أنساق أخلاقية متعددة، وانشطار في الطروحات السياسة والمسالك وآليات العمل، لم تفلح حتى اليوم في الدفاع عن نفسها ضد تهمة التشرذم، بمقابل سوريين آخرين أعفوا أنفسهم من عناء التفكير ورضخوا لنظام يفكّر بالنيابة عنهم ويكتب التاريخ كما يحلو له، سواء عبر مفارز مثقفيه ومؤسساته البحثية والأكاديمية أو من خلال إنتاجه الدرامي التاريخي منه والاجتماعي وغير ذلك مما يسطّر به قصّته وقصّتنا حسب رؤيته.
يكثر الجدل حين يتم تدشين مؤسسة تطول القضايا الهامة والحساسة، ويكون في الغالب لمن امتلك مكيال عقل، ثُلثُه فِطنةٌ وثُلُثاه تَغَافُلٌ، كما قال معاوية، جدلاً إيجابياً خلاقاً، ويحقّ لسائلٍ أن يسأل لماذا لم يكثر اللغط حين أطلق المركز العربي مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، واللغة هي الهوية الأم، وهي أهم من ذكر فلان وعلان، ووصف هذه الحادثة أو تلك، وإبراز هذا الحزب أو تقليص دور غيره؟ مشروع آخر أطلقه المركز لا يقلّ أهمية عن هاذين المشروعين، هو مشروع “ذاكرة فلسطين”، الذي كانت غايته، كما كتب المركز العربي على صفحته الأولى؛ الإسهام في تاريخ فلسطين وتوثيق حركتها الوطنية، من خلال تأسيس قاعدة بيانات رقمية، تحفظ أراشيف كيانات وهيئات سياسية، وجمعيات محلية، ومجموعات شخصية، وأوراقًا عائلية، فكيف كان تعاطى الفلسطينيين حينها مع “ذاكرة فلسطين”؟
أما أسوأ رد فعل يمكن أن يبدر عن السوريين أمام مشروع “الذاكرة السورية” المطروح حالياً، فهو الاحتفال به والسكوت عن نقده ونقاشه وتحليل محتواه، فهم بهذا يصبحون نمطاً آخر عن مماليك الاستبداد وعبيده، أما التفاعل المستمر مع الإنتاج المستمر، فمن شأنه أن يُشْرِك الجميعَ في كتابة هذا التاريخ، بالتأثير لا بالرجم، وبالنقد الغاضب لا بالشتيمة والاتهام من دونما وثيقة أو دليل دامغ.
سيُكتَبُ التاريخُ السوريّ مراراً في المستقبل، وسيكون على السوريين آنذاك أن يتناولوا كل نسخة منه بحكمة وإدراك للمهمة الواقعة على كل منهم، المهمة الأبرز والأجلّ بين جميع المهام؛ مهمّة صناعة التاريخ لا التزاحم على تدوينه.