خاص – د. يحيى العريضي
لم يكن نتنياهو بعيداً عن باب المحكمة قبل السابع من تشرين أول2023؛ وكأن ذلك اليوم أتى لإنقاذه من محاكمة ترمي به إلى المعتقل لارتكاباته المحلية. فكل يوم إضافي من النزف الفلسطيني هو يوم حرية له. سيكون حريصاً على المزيد من امتدادات هذه الحرب إلى مزيد من الجغرافيا، وخاصة مع حضور غير مسبوق لترسانة حربية أمريكية. مبرراته للداخل الإسرائيلي وللخارج يصعب دحرها بحصول تهديد وجودي للكيان, وأخذ رهائن مختطفين.
والحال هكذا، لن يكترث نتنياهو لرأي رئيس الشاباك الأسبق “عامي إيالون” إذا ما ركّز في حديث للصحافة على ضرورة وجود {exit strategy / استراتيجية خروج} من تلك الحرب، و{ the day after/ اليوم التالي للحرب }؛ فهذه أمور خارج قاموس نتنياهو. إن امتناع حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي عن مناقشة “اليوم التالي” حوّل حرب نتنياهو إلى صراع عسكري يستحيل فيه تعريف “النصر”، الذي يتم تعريفه عادةً بمصطلحات دبلوماسية سياسية، ما يجعل الحرب بحد ذاتها غاية لا وسيلة؛ والأخطر يجعلها دائمة. خلاصة قول “يعالون” أن هذه الحرب لم تعد وسيلة لنتنياهو، بل غاية، وغاية شخصية حصراً.
تأخذ نتنياهو العزّة، ويتصرّف مع الرئيس الأمريكي بايدن ابتزازياً معتمداً على تأييد تقليدي أمريكي، و دولة عميقة، و”لوبيات” تحرص على إسرائيل، ربما أحياناً أكثر من حرصها على أمريكا ذاتها. وهنا ترى بايدن في حالة ارتباك في عام انتخابي يتقلّب بين صفيح و صفيح؛ إضافة إلى تموضع عالمي فيه روسيا والصين و دول أخرى هاجسها وقوع أمريكا، كي تتمكّن هي ذاتها من الوقوف.
أمام المأزق العالمي المنذر بحرب عالمية جديدة، قطب رحاها فلسطين ( القضية المركزية التي تمركَز وامتد الصراع حولها لعقود) هناك أربع مقاربات لإيجاد مخرج تشغل مراكز البحوث وأذهان السياسيين: ١- دولة واحدة (يهودية) ٢- دولة واحدة (آمنة وديموقراطية و يهودية) ٣- دولة واحدة (ديموقراطية ذات أغلبية يهودية) ٤- دولتان (إسرائيلية و فلسطينية).
تمثّل الأولى وصفة لاستمرار الصراع، لأنها ستقوم على الإلغاء؛ وهذا مطلب “نتنياهو”؛ ويشاركه بذلك وزير الأمن القومي الإسرائيلي الذي يقول “إن العالم يريد أن يمنح دولة للفلسطينيين، وهذا لن يحدث”. والثانية والثالثة تقومان على الإلغاء والمتناقضات والتمييز الإجباري؛ فلا أمان ولا ديموقراطية في ظل الإلغاء، والصراعات الداخلية اليهودية – اليهودية، التي نشهد فصولها لعقود. وهنا تبقى المقاربة الرابعة، والتي تحظى بشبه إجماع عالمي و عربي.
للأسف يحول دون “حل الدولتين”- إضافة لليمين المتطرف الإسرائيلي- جملة من الحقائق والعقبات الكأداء ذات الجذور التاريخية؛ حيث ساد الإعتقاد بأن الكيان من حيث النشأة والتصميم لا يعيش ولا يستمر إلا على التوتر والأزمات والحروب كثكنة متقدمة للغرب أيضاً. ومن هنا، وبعد ثلاثة عقود على نشأة الكيان، شهدت توترات وحروباً ودماءً، أتت لحظات سلام، ظنّ البعض أن الصفحة قد قُلِبَت؛ إلا أن الكيان زاد اضطرابه، ربما للإخلال بشروط وجوده.
في “لحظات السلام” تلك، وفي عام تسعة وسبعين من القرن المنصرم، وُلِدت جمهورية ملالي طهران “الإسلامية”، وعادت موجات التوترات والحروب؛ من حرب العراق و إيران، واحتلال الكويت، وتحرير الكويت، و ١١ أيلول، وصولاً إلى احتلال العراق؛ وكل ذلك ساهم بالحفاظ على الثكنة الصهيونية في جو التوتر كرأس حربة للمشروع الغربي الاستعماري الجديد، ولاستمرار استباحة الشعوب وحقوقها. حتى سنوات “الربيع العربي”، وما شهدته من اهتزازات، كانت فسحة من نوع آخر للكيان، الذي ساهم بالحؤول دون تحقيق الشعوب العربية مصيرها في الحرية والاستقرار والأمان بعيداً عن دكتاتوريات تتخادم مع اسرائيل.
كل ذلك يحدث، و جمر فلسطين يغلي تحت الكيان و حوله، إلى أن أتى السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، لتضطرب المنطقة وتتوتر، وليستنفر الغرب وراء الكيان؛ فالخطر الفلسطيني الداهم وجودي. وهنا كان أيضاً الاستنفار الأكبر عند المتعاقدين المتخادمين مع الكيان وداعميه في المنطقة لتجديد عقودهم.
خلاصة القول، إذا كانت أمريكا و حلفاؤها حريصين على قلب الصفحة في المنطقة، والانتقال إلى حالة من الاستقرار التي تثبّت قيادتها “للعالم الحر”- كما تدّعي- وإذا كانت “الدولة العميقة” ترى مكسباً مادياً أكثر في السلام والأمان والاستقرار، فلا بد من إحقاق الفلسطينيين بدولة، وتخليص شعوب المنطقة من منظومات دكتاتورية تخادمية أخذت من القضية الفلسطينية مطيّة للاستبداد، والمزايدة، والتكسب عبر قهر شعوبها، وسرقة خيارات بلادها، وتغييب السلام عن المنطقة. وهذا بالتأكيد يستلزم نزع فتيل التطرف اليميني الإسرائيلي الذي يشبه تماماً دكتاتورية أولئك المتعاقدين تخادمياً. ربما تحتاج تلك العلّة لذلك الدواء النجس، شريطة ألاّ تتحوّل الحرب إلى غاية.