ما يجري في سورية اليوم أمر طبيعي، وهو متوقع منذ سنوات، إذ تتفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ولم يعد النظام قادراً على القيام بواجبه تجاه الشعب الذي يحكمه، وهو عاجز عن إيجاد حلول مجدية، وقد افتقد أوراقاً كان يختبئ خلفها، فلا إرهاب ولا تآمر خارجي، وللفقر أنياب تنغرس في أرواح الناس درجةَ هدر كرامتها أمام غياب أسباب الحياة الضرورية، وفَقدَ القمع تأثيره ومعناه في ظل تنمُّر اللصوص، وأسياد الفساد في أعلى الهرم السلطوي.. ويقف رأس النظام وجهاً لوجه أمام أفعاله، وما ارتكبه بحق الشعب السوري من جرائم أدانها العالم، ومنظماته الإنسانية.. ولم يعد لدى الشعب ما يخسره غير قيوده، فهبّ منتفضاً بعزيمة أقوى، وعقل أكثر وعياً مستفيداً من تجربته فهو اليوم من يحاكم المجرمين المسؤولين عن كل ما ألحقوه بسورية وأهلها من دمار وخراب وآلام وأحزان، وتكثر البيانات معلنة عن تنظيمات سياسية جديدة، ترافقها مظاهرات تتخذ من السلمية شعارات لها.. ويقف النظام عاجزاً عن فعل أي شيء، بل إنه لا يزال يحتقر الشعب ويستغبيه، فقد رفع الرواتب 100% بينما ارتفعت المواد الاستهلاكية أكثر من ذلك بإلغاء الدعم عن المحروقات فارتفعت أسعارها أضعاف ما كانت عليه. ولا تبرير لدى النظام لأنه يعجز عن تلفيق الاتهامات للشعب المنتفض، بعد أن ناءت به أثقال العيش حدَّ الانفجار..
وإذا كانت إشارات التمرد تأتي اليوم من السويداء فليس غريباً، إذ إن السويداء منذ بدأ النظام حربه ضد الشعب كان لها موقف مشرف إذ حجب أهلها أبناءهم عن مشاركة الجيش تلك الجريمة.. لكن السويداء اليوم ليست وحدها، فالعديد من مدن درعا تنتفض معها. وكيف لا وقد انطلقت الثورة من قلبها حيث امتُهنت كرامة أهلها.. وامتدت المظاهرات إلى حيِّ جرمانا في مدينة دمشق.. وثمة روائح انتفاضات تهب تباشيرها من مدينة جبلة على الساحل السوري الذي قدم الألوف من شبابه في تلك الحرب التي ظلمت السوريين كافة. وقد تتمدد، في الأيام القادمة، إلى البلاد السورية كلها. فأحوال الناس متشابهة، وثمة تذمر في الشمال السوري، وفي الشمال الشرقي أيضاً سواء من انعدام فعالية المعارضة الرسمية، أم من تجاوز حكومات الأمر الواقع التي وُضع بعضها على قوائم العقوبات..
وإذا كان ارتفاع الأسعار وحال الفقر الذي ألمَّ بالشعب السوري هو السبب المباشر لقيام تلك المظاهرات فإنَّ أسبابها البعيدة أكثر عمقاً، وهي التي دعت إليها أو التعبير عنها بأشكال مختلفة فالفقر (بحسب ماركس) لا يصنع ثورة، وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة”.
نعم إن الأمر الثاني هو الذي يقود اليوم تلك الانتفاضات التي لها أبعاد سياسية ووطنية ولم تأت إلا بعد خبرة ومعرفة بطبيعة هذا النظام، وبموطن ضعفه، وفساده، وهو القصر الجمهوري، ومن هنا جاء هتاف المتظاهرين في جرمانا:
“ما بدنا حكي ولا أشعار بدنا نعيش يا بشار..” هكذا بدون ألقاب ما يؤكد حقيقة الوعي الذي توصل إليه المتظاهرون الذين نفذوا عصياناً مدنياً في مدينة السويداء، يوم الأحد 20 آب 2023 مؤيَّدين من مشايخ العقل لطائفة المسلمين الموحدين، إذ جاء في بيان سماحة الشيخ “حكمت سلمان الهجري” عن حق الشعب في التظاهر: “فمن حق الناس أن تصرخ وتستغيث، ومن حق الناس أن تتوقف عن عمل أصبح يجلب لهم الإذلال، ومن العيب أن نرى هذا التدمير، ونبقى صامتين، وليكن في وجه من يستلم موقعاً قيادياً بعض الحياء، والخجل حين العجز والتقصير”. كما زجر البيان الحكومة، وفضح مزاعمها، ونهى المسؤولين عمَّا يقومون به تجاه الشعب الذي يتولون شؤونه:
“ما هكذا تعامل حكومة شعبها، ولا هكذا تكون القرارات، ولا التصرفات، والحجة حرب كونية، وأي حرب كونية، وأنتم تدمرون شعبكم، وتحبسون مقدراته عنه، وتسقطون اقتصاده الوطني إلى الحضيض بقرارات بخسة، وتعاملات لا تهمها سوى الجباية القسرية وتدمير البنى التحتية”.
وتثير هذه الاحتجاجات أسئلة كثيرة، فهل تستمرُّ وتتنامى فعلاً وإلى أي مدى؟! وما تأثيرها في الواقع السوري؟! وهل يمكنها أن تمهد لإسقاط النظام بالسلمية التي ترفعها؟ وكيف سيتعامل معها النظام الذي لا يملك أيَّ حل غير المجابهة التي فقدت مبرراتها.. وفي الجواب يمكن القول:
أولاً: إنَّ هذه التظاهرات، وما سبقها من تنظيمات وإعدادات، تكتسب أهميتها من كونها تحرك مياه الحال السورية الراكدة، وتؤكد حيوية الشعب السوري، وخاصة أنها تأتي بعد اثنتي عشرة سنة من التوحش في القتل، والموت في السجون والمعتقلات وتعميم المجازر، والاستعانة بالخارج على تدمير سورية، وتهجير شعبها.. وبالتالي تقاسم ثرواتها، وتغيير معالمها الديمغرافية، وفرض معتقدات مذهبية غريبة، كما أنها تأتي بعد مقابلة بشار الأسد على قناة “سكاي نيوز عربية” وكأنها رد على ما قاله: إذ هو غير نادم على ما ارتكب، وأنه سوف يقوم بالفعل نفسه، إذا ما أعيدت أحداث 2011. وقد زيَّف حقائق معروفة للملأ حين نفى وصية والده بتوريثه الرئاسة..
ثانياً: إنها تحمِّل رأس النظام المسؤولية الكاملة عن كل ما جرى، ويجري في سورية سواء تعلق الأمر بالوضع الاقتصادي، أم بالحال المعيشية للمواطنين السوريين، أم بتفشي الفساد والجريمة، إضافة إلى اتهامه وأسرته بسرقة أموال الشعب، وبإهدار القيم العامة، ونشر أخرى تبيح التطاول على أملاك الخاصة والعامة وتروِّج لتعاطي المخدرات وما تستتبعه..
ثالثاً: سوف تساهم هذه المظاهرات، إذا ما تنامت، في ردم الهوة الطائفية أو المناطقية التي أخذت تسود خلال الأعوام الماضية، لتؤسس لخطاب سوري موحد يؤكد الهوية السورية الواحدة، ويمهِّد لدولة المواطنة تحقيقاً للمساواة التامة بين المواطنين، على اختلاف انتماءاتهم، وتتخلص من أسلوب المحاصصة التي هي شكل آخر من الاستبداد، وقد أخذت بها المعارضة الرسمية، وجرى اللعب عليها ليسود طرف على آخر..
رابعاً: لعلها، ودائماً إن تنامت الاحتجاجات وتوسعت لتشمل الأوساط السورية كلها، وثمة بوادر مبشِّرة جاءت من الشمال السوري، قد تسهم بإيجاد أجواء جديدة أمام تطبيق القرار الأممي 2254 سواء تعلق الأمر بالمتدخلين في سورية أم في الدول الأوربية وأمريكا..
خامساً: وتبقى الأمور مفتوحة على احتمالات عدّة، فعلى الرغم من أن بشار الأسد لا يملك إلا المجابهة، لكنَّ مفاجآت ما قد تحدث، فالآفاق مسدودة أمام السوريين وسواهم، ولا بد من فتح ثغرة في هذا الجدار الأصم.. ثغرة تفسح في المجال لحلٍ مناسب، يستبعد أسرة الأسد، ربما عبر اتفاق دولي مع الروس، وبمساهمة من بعض الدول العربية، والمتدخلين الآخرين.. اتفاق يمكِّن من حل الأزمة السورية، وينزع فتيل التوتر من هذه المنطقة الحساسة من العالم، ويحدُّ من خطر التوسع الإيراني الذي يقلق دول المنطقة والعالم..