د. وائل مرزا
ها هو العالم (المتحضر) اليوم يرعى ويحتضن ويدعم أخطر حكومةٍ في العالم تستمد شرعية دولتها، وليس فقط وجودها كنظام، من فكرة الحق الإلهي (التلمودي)، بالتصريح دون التلميح. وها هي الفلسفة، ومعها العلم، يُعلنان على الملأ الفشل الذريع في الحفاظ على أي بقيةٍ للأخلاق والنظام والقيم أمام ما تمارسه إسرائيل من عربدةٍ سياسية وعسكريةٍ واقتصاديةٍ وثقافية وإعلامية، بدرجةٍ تفقأ أعين الجميع.
في (التكبُّر) المعرفي
انطلاقاً من مسلمات مُسبقة. ثمة شعورٌ، يُقارب الازدراء، في أوساط (تقدميين) مثقفين عرب في معرض قراءتهم لما يرون فيه شبهة (خطابٍ ديني) في سياق الحديث عن الوقائع العملية التي يشهدها الاجتماع البشري العربي بشكلٍ عام، وفيما يتعلق بأحداث فلسطين راهناً على وجه التحديد.
والمفارقة أن هذا الشعور يُفرز مباشرةً (أحكاماً) قاطعة، وغير قابلة للنقاش، على ما هو مطروح، بحيث تُمارسُ عليه، باستسهالٍ غريب، عملية (التصنيف)، بدعوى كونه جزءاً من تلك الخطابات التقليدية (الرجعية) التي عفا عليها الزمن، ولا تستحق مجرد النظر فيها، لاستحالة انتمائها لدائرة (الفكر العلمي).
نحن هنا لا نُلغي مشروعية الحذر مما قد يصبح (اختزالاً) عند محاولة تفسير الظواهر باستعمال لغة ذلك الخطاب ومفرداته (بشكلٍ حصري).
غير أن الخصم الحاسم والإلغاء السريع لإمكانية وجود أي قدرةٍ تفسيريةٍ لبعض مضامين ذلك الخطاب يبدو (موقفاً أيديولوجياً) أكثر من كونه ينبثق من الرؤية الموضوعية المعرفية. فضلاً عن كونه ممارسةً في غاية (النخبوية)، خاصةً إذا أخذنا بعين الاعتبار الحمولة الكامنة فيه والتي تتضمن (تسخيف) مدخلٍ للتفسير يلامس مشاعر وقلوب مئات الملايين من العرب والمسلمين. وهذا حالٌ يمكن أن يُفسِّر، ولو جزئياً، ذلك الفصام بين النخبة والجماهير. ومعه العجز البالغ في عطاء غالبية النخب عن مواكبة متغيرات الواقع العربي الحساسة والمتسارعة، إن لجهة تفسير ظواهرها، أو في سياق تشكيل تراكمٍ معرفي يؤثر في مضمونها إيجابياً على صعيد الفعل البشري.
تدخل تلك العملية في جوهر (التكبر الفكري والثقافي) الذي يمارسه الكثيرون، بلسان الحال ولسان المقال. بل وتحمل مظنّة ممارسة (الإرهاب الفكري) الذي ربما يخيف مثقفين كثر، ويفرض عليهم شعوراً طاغياً بضرورة تجنب مفاهيم ذلك الخطاب ومُفرداته، ولو بشكلٍ جزئي، كيلا يُصبحوا عُرضةٍ للتصنيف، وبالتالي العَزل من دائرة (المثقفين) المعاصرين الذين لا يجوز لهم مجرد استعمال تلك المقاربة، بأي درجة، إذا أرادو الحفاظ على (شرف البقاء) في تلك الدائرة.
رغم ذلك، وبغض النظر عن كل تلك الحمولة المأزومة السائدة في ساحة الثقافة العربية، والتي تتناقض مع قاعدة فهم الظواهر بمنهج تعدد التخصصات، يبدو تجاوزُها، كما سنفعل في هذه الورقة، مدخلاً ضرورياً لفهم ظواهرَ في الواقع العربي (والعالمي) الراهن المعايش لأحداث غزة، ربما تكون بمثابة إشارةٍ إلى (عودة الله)، بالمفهوم الفلسفي، وليس الديني، للموضوع.
فمنذ أكثر من مئة وأربعين عاماً، أعلن “نيتشة” عن “موت الله”. وباعتبار الرجل ملحداً أصلاً، فقد كان يقصد أن فكرتنا عن الإله ماتت. وكان لذلك (الموت) في نظره أسباب موضوعية. ورغم أن مقاربته للموضوع كانت من يومِ طرحها مركبةً من عناصر متناقضة أحياناً، وتفتقد التماسك والاتساق. غير أن واقع العالم اليوم، في سياق تعامله مع أحداث غزة، ربما يُظهر ما يمكن تسميته بـ”عودة الله”، بشكلٍ صارخٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري المعاصر.
طرح “نيتشة” جملة مقولات أساسية، من القول بأن الفلسفة أظهرت عدم حاجة الحكومات لفكرة الحق الإلهي لاكتساب شرعية وجودها، مروراً بأن العالم لم يعد بحاجةٍ إلى الإله كمصدرٍ ومرجعيةٍ للأخلاق والقيم وللنظام في العالم وفي الكون، وأن الفلسفة والعلم باتا قادرين على تولي هذا الدور بالنسبة للإنسان، وأكدَ على ضرورة زوال النظام القديم للمعنى، مع إمكانية إنشاء نظام جديد، وصولاً إلى محاولاته الأخيرة لحل تناقضات نظريته بالدعوة إلى وجود “الإنسان الخارق” ثم “الإنسان الأخير”.
ولكن، ها هو العالم (المتحضر) اليوم يرعى ويحتضن ويدعم أخطر حكومةٍ في العالم تستمد شرعية دولتها، وليس فقط وجودها كنظام، من فكرة الحق الإلهي (التلمودي)، بالتصريح دون التلميح. وها هي الفلسفة، ومعها العلم، يُعلنان على الملأ الفشل الذريع في الحفاظ على أي بقيةٍ للأخلاق والنظام والقيم أمام ما تمارسه إسرائيل من عربدةٍ سياسية وعسكريةٍ واقتصاديةٍ وثقافية وإعلامية، بدرجةٍ تفقأ أعين الجميع.
لسنا هنا في معرض الاشتباك التفصيلي الأكاديمي مع فكرة “موت الله” النيتشوية، وإنما نستخدمها مدخلاً لما يبدو تجلياتٍ عديدة في الحدث العالمي الراهن، وبالمعنى الفلسفي، لـ “عودة الله” بقوةٍ وعنفوانٍ وحضورٍ طاغٍ متنوع المظاهر.
ثمة عنصران، تحديداً، يُثيران الفضول والاهتمام في هذا الإطار، ينبعان من، ويتعلقان بمفهوم الإله في دلالاته الثقافية الدينية بشكلٍ عام، والثقافية الإسلامية تحديداً.
يتعلق العنصر الأول ببعض إشاراتٍ فريدةٍ واردةٍ في النص القرآني. أما الثاني فيتعلق بالموقف المستجد من الدين، في تجليه الإسلامي، لدى شرائح من غير المسلمين، وخاصةً في أمريكا وأوروبا، في إطار موقفهم من الحدث الراهن، سواء تعلق الأمر بالوصول إلى اعتناق الإسلام، أو بالاستعادة (الصاخبة) لمعاني الحق والعدل والأخوة الإنسانية من قبل عشرات الملايين أيضاً في أمريكا وأوروبا، ثم غيرها من دول العالم في أطراف الأرض الأربعة.
النص القرآني وفيض المعنى
تلفتُ النظر في العنصر الأول آياتٌ تعبّرُ بطريقةٍ في غاية الخصوصية، وبصياغةٍ تصعبُ على البشر، وبكلماتٍ معدودة تحمل خزيناً هائلاً من المعاني، ربما يحتاج الإنسان إلى صفحاتٍ، أو على الأقل فقراتٍ، للتعبير عنها، عن ظواهر نعيشها في واقعنا المعاش المتأثر بأحداث غزة راهناً.
على سبيل المثال، ثمة في الواقع العربي الراهن شرائح كانت تعمل بشكلٍ حثيثٍ على رمي قضية فلسطين في غياهب النسيان قبل الحدث. هذه شرائح أزعجها جداً حصول (الطوفان). بل إنها أصيبت بذعرٍ شديد في أول أيامه، ثم إنها بعد استيعاب الصدمة الأولى لم تكتفِ بالامتناع عن كل ما يمكن أن يساعد الفلسطينيين مادياً أو معنوياً، بل إنها استنفرت، على العكس، بجهود مادية ومعنوية، وتحديداً إعلامية، لتشن حملات شعواء مدروسة، لا تهدف فقط إلى تشويه الرواية بشكلٍ كامل، ولا إلى الإحجام عن تقديم أي عونٍ ضروري، بل وإلى بذل الجهد لمنع كل دعمٍ أو مساعدة ممكنة يمكن أن يقدمها آخرون.
وفي أقل من ثلاثة أسطر، تتضمن الآيتان من سورة الأحزاب وصفاً تحليلياً أقرب للإعجاز لمثل هذه الظاهرة:
{قد يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}
لا يمكن لمنصفٍ أن يتجاوز ما تجمعه الآية من تكثيفٍ شديد للمعاني، ذات العلاقة، يُظهرُ دلالاتها بشكلٍ مُبهر، مع ربط تلك الدلالات بسلاسةٍ متميزة، ثم ينتقل إلى إنجاز المهمة بصياغةٍ ترتقي إلى قمة البلاغة والبيان، دونما إيحاءٍ بأي درجةٍ من درجات التكلّف والتقعر.
وتجنباً للإطالة والدخول في عملية (التفسير) التي ليست من وظيفة هذا العرض، انظر مثلاً إلى عبارة: {سلقوكم بألسنةٍ حداد}! هذا تشبيهٌ يكاد يكون تعبيراً إعجازياً، في اختيار ألفاظه وربطها، عن فعلٍ بشريٍ يمكن أن يمثل أقسى ما يمكن لإنسانٍ ممارساته من إيذاءٍ يتعلق بـ (القول) البشري الذي يصدر عن (اللسان)، سيما في ظل (الأداة) التي يستخدمها هذا اللسان، وتتمثل اليوم في واقع التقنية المتعلق بوسائل الإعلام التقليدي ووسائط التواصل الاجتماعي. والتي باتت في هذا العصر الوسيلة الأكثر مضاءً للدعاية السلبية والكذب والتزييف واغتيال الشخصية والتخوين والتخذيل، وبدرجاتٍ يمكن أن يُعبّر عنها بقوةٍ التشبيهُ بعملية (السّلق) الذي يحصل عند الوصول إلى أقصى درجات الغليان، وفق المصطلح الذي تستخدمه الآية. وهي عمليةٌ تَظهرُ قَسوتُها البالغة عند وصف اللسان الذي يمارسها بمصطلحٍ ساحرٍ يجمع بين (الحِدّة) و(الحديد)!
وفي مثال آخر. ثمة، أيضاً، في الواقع العربي من ملأ الدنيا بشعارات نصرة فلسطين والفلسطينيين، والاستعداد لتحرير القدس والأقصى. بل إن هؤلاء، كما هو حال (حزب الله اللبناني)، ارتكبوا المجازر في سوريا انطلاقاً من مقولة أن ثورتها كانت عميلةً للصهاينة، وأن مجازرهم فيها كانت خطوةً ضروريةً على طريق تحرير القدس. بل إنهم نظموا استعراضات عسكرية ضخمة باسم التجهيز لتحرير الأقصى واختراق حدود إسرائيل قبل حدث (الطوفان) بشهرين فقط.
لكن موقفهم المتمثل في الالتزام بما يُسمى “قواعد الاشتباك” التي تم الاتفاق عليها مع إسرائيل قبلها بأعوام بقي واضحاً للفلسطينيين والعرب. ورغم كل الشعارات النظرية التي تركز على نصرة الفلسطينيين من جانب، وتَصاعُد المجازر بحق هؤلاء من جانبٍ آخر، بقي موقف الحزب لا يتجاوز بعض الاشتباكات المدروسة والمضبوطة بينه وبين الجانب الإسرائيلي.
وهنا تبرز آيتان ثانيتان من سورة التوبة تتضمنان ضوءاً تحليلياً كثيفاً يكشف طبيعة الموقف، وأيضاً بكلامٍ لا يشبه كلام البشر من قريبٍ أو بعيد.
{كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
ثمة قومٌ هنا يزعمون، ليل نهار، نيتهم على (الانبعاث) دفاعاً عن الحق وعن المظلومين. وهم يؤكدون مراراً وتكراراً تحضير أنفسهم لعملية (الخروج) في سياق تلك الشرائح التي تريد حقا الخروج للصراع مع الظلم والظالمين. والصدقية الوحيدة التي يمكن لهؤلاء اكتسابها إنما تأتي من الممارسة العملية للانبعاث والخروج، وتحديداً في مثل هذا الظرف، حيث يُدرك القاصي والداني أنه (الظرف)، بأل التعريف، الذي يجب أن يُمارِس فيه مَن يرفع شعارات الانبعاث والخروج ما يقوله عملياً على أرض الواقع.
نحن هنا بإزاء موقفٍ من تلك المواقف (الكاشفة) بشكلٍ صارخ. والمؤكد أن ثمة ضغطاً نفسياً شديداً على من يجد نفسه في هذا الموقف، وخاصةً في إطار كل ما هو معروفٌ عن (رواية) حزب الله و(قصته) في لبنان والمنطقة على مدى عقدين سابقين.
رغم كل ذلك. يجد هؤلاء أنفسهم مكبّلين نفسياً وعملياً. وتَعلمُ الغالبية العظمى من جماهير العرب سبب تكبيلهم المتمثل في تبعيتهم الكاملة للأجندة الإيرانية، وفي الالتزام النهائي بوظيفتهم المتمثلة في خدمة مشاريعها، مقابل كل الممارسات (الميليشياوية) السلبية التي يمكن أن تصدر عنهم خارج إطار ذلك الالتزام الوظيفي.
تشيع المعرفة بين الناس بواقع هؤلاء وتاريخهم إذاً، فتأتي الآية لتضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بخطورة أفعالهم الممكنة في حال انخراطهم الحقيقي في الحدث الراهن: {مازادوكم إلا خبالاً} والخبالُ في العربية الفساد والشر، وهو من جذر (الخبَل) الذي يعني ضياع العقل. {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة} قياماً باجتراح كل ما يُخلُ بكم في صفوفكم، وفي محاولةٍ لإيقاعكم في كل أصناف الفتنة الممكنة. سيما وأن من الطبيعي أن يكون {فيكم سمّاعون لهم} نتيجة دعاياتهم وادعاءاتهم السابقة والمتكررة.
وفي ظل تلك الحال التي يعرفها الناس منهم وعنهم، وفي ضوء ممارساتهم وأفعالهم ومواقفهم السلبية السابقة، يصبح مفهوماً هذا الحكمُ بإقعادهم مع القاعدين، وكراهية انبعاثهم مع من يغالبون الظلم والظالمين بصدقٍ وإخلاص. ولكن، وهذا في غاية الأهمية، دون أن يكون هذا حُكماً مُسبقاً غيبياً مُطلقاً لا نعرف أسبابه ودواعيه. فيما يبدو إلغاءً ناجحاً، من قِبَلِ النص القرآني، لشبهة كونه حُكماً جبرياً مفروضاً عليهم دون أسباب!
ولولا مغبة الإطالة، لعرضنا أمثلةً أخرى عديدة تتكرر بإزائها مقولةٌ لمؤمنين كثر يقولون فيها: “كأننا نقرؤها أول مرةٍ في حياتنا”.
يحضرني في هذا السياق موقفٌ مع الزميل ياسين الحاج صالح، سألته فيه خلال بعض حواراتنا أيام إقامته في إسطنبول عن (القرآن)، بعد حديثٍ طويلٍ يتناول انتقادات منهجية، مشتركةٍ بيننا، للإسلاميين، وتساؤلات منهجية جذرية، مُشتَركةٍ أيضاً بيننا، عن الإسلام. كان السؤال ينبثق من معرفتي بتمكُّنه البالغ من اللغة العربية لجهة التعابير والمفردات والصياغة، وكل ما يتعلق بالموضوع. وبالتالي، لمنطقية التفكير فيما قد يكون لغةً تصدر عن البشر، وما قد يبدو صعباً صدوره عن بشر.
لا أريد هنا، أبداً، أن أُقوِّلَ الزميل مالم يقله، في موضوعٍ هو في غاية الحساسية، والحديث فيه يقتضي الحرص على أقصى درجات الأمانة. من هنا، أذكرُ أن ما قاله، بعد تفكير، يدخل في أن ثمة شيئاً في موضوع (القرآن) يحيك في صدره ولم يستطع الوصول إلى قرارٍ نهائيٍ بخصوصه. لم نتابع الحوار بعد تلك الإجابة، والقصدُ من إيراد الحادثة هنا هو الإشارة إلى أن ثمة كموناً في النص القرآني، لن يكون منهجياً، بل ربما يكون مُعيباً، القفزُ عليه بشكلٍ كامل، على طريق محاولة استكناه دوره في حياة البشر وما تشهده من وقائع وأحداث.
صحيحٌ أن النص القرآني موجودٌ منذ قرون. لكن قراءةً متجددة لبعض مضمونه المتعلق بأحداث اليوم قد يوحي بـ “عودة الله” إلينا من جديد. وتلك عودةٌ تتجلى في كلماته التي تُقارب الأحداث بكثافةٍ في المبنى والمعنى، يغلب أن يكون فيها كثيرُ إضافةٍ لما يقوله البشر.
موقف الغربيين من الإسلام
أما في إطار العنصر المتعلق بالموقف المستجد من الدين، في نسخته الإسلامية، لدى شرائح من غير المسلمين، وخاصةً في أمريكا وأوروبا، في إطار أحد تجليات موقفهم من الحدث الراهن، والمتمثل في إقبال بعضهم على اعتناق الإسلام، فالأمر يستحق كلمةً قبل الحديث فيه.
ذلك أن مسألة (إسلام) بعض غير المسلمين، وخاصةً في الغرب الأوروبي، والتي يحتفي بها كثيرٌ من المسلمين بشكلٍ مُبالغٍ فيه، كانت في أغلب الأحيان تعبيراً جوانياً، في جوهرها، عن العجز في الفعل الحضاري للمسلمين. حيث باتت الأخبار المتعلقة باعتناق الإسلام لدى الكثيرين مدخلاً، يكاد يكون وحيداً، للشعور ببعض التوازن المتعلق باستمرار انتمائهم للإسلام، ومشروعية ذلك الانتماء. ذلك أن من أكثر الأمور بديهةً أن (أعداد المسلمين) الهائلة، في هذا العصر، ليست بإطلاق دليلاً على إنجازاتهم أو فعلهم الإرادي أو موقعهم في متن هذا العالم. بل إنها، في حقيقة الأمر، مظهرٌ من مظاهر الاستقالة والاستسلام والقبول السلبي بالحياة على هامشه، في انتظار حلٍ ينزل من السماء، وتواكلاً يتجلى في شكل اعتمادٍ على (كثرةٍ) يكرر النص القرآني أنها لم ولن تغني عنهم شيئاً.
لكننا هنا بإزاء ظاهرةٍ مختلفة الدلالات بشكلٍ جذري، حتى لو تشابهت، شكلياً، مع الظاهرة مقام النقد في الفقرة السابقة. ومفرق الطريق في طَرحِنا هنا يكمن في عدم اعتبار اعتناق الإسلام من قبل تلك المجاميع على أنه “عودة الإسلام” وإنما هو تحديداً تجلٍ لظاهرة “عودة الله”.
وثمة عشرات المقاطع المصورة التي يمكن رصدها، من أمريكا وأوروبا وأستراليا، وبعض دول آسيا، يظهر فيها مواطنون من تلك البلدان، بغالبيةٍ واضحةٍ من النساء، تُجمع مَضامينها على كون أحداث غزة مدخلاً لتفكيرها بالإسلام، ثم اعتناقه كدين.
لم يُعايش هؤلاء، كما تَسمع في شهاداتهم المُعبّرة، مسيرةً طويلةً من التعرُّف إلى الإسلام بالطريقة التقليدية التي يسلكها أغلبية من يعتنقون الإسلام. لم يقضوا شهوراً في حضور دروس وقراءة كتب وسماع محاضرات يتعرفون من خلالها على تفاصيل عقائد الإسلام وعباداته. بل الأرجح أن كثيراً منهم لم يكن يُفكر بالإسلام ابتداءً، فضلاً عن اعتناقه، من قريبٍ أو بعيد، قبل أحداث غزة.
ويبدو، بتحليل الشهادات تلك، واستقراء عفوية طروحاتها البسيطة، أن ثمة فرصةً لاحت أمامهم، مع متابعة الأحداث، لاقتناص (نظامٍ جديدٍ للمعنى)، قد يُذكِّرُنا بذلك النظام الذي بشَّر “نيتشة” الإنسانية بإمكانية تجاوزه، وتجاوزِ مصدره. عاش هؤلاء ويعيشون في اجتماعٍ بشري كان يُفترض أن يكون نموذجاً مثالياً لقدرة الفلسفة والعلم فيه على أن يكونا مصدراً ومرجعيةً للأخلاق والقيم وللنظام في العالم وفي الكون. لكنهم رأوا في الحدث الضخم الراهن ما يطعن ذلك النموذج في قلبه، فيُصيبهُ في مقتل.
ويسري هذا التحليل على الآلاف من المواطنين الغربيين، وخاصةً من الشباب، الذي عبَّرَ في مشاركاته على وسائط التواصل الاجتماعي عن مظاهر وتجليات متنوعة لما يمكن وضعه، دون كثيرِ حَرج، تحت عنوان الاختراقات الروحية التي تسربت إلى قلوبهم وعقولهم مع متابعة الأحداث. لم يعتنق هؤلاء الإسلام كدين، لكن من الواضح أنهم استعادوا بزخمٍ قوي نظاماً جديداً للمعنى، مُفعمٍ بقيم الحق والعدل والأخوة الإنسانية، لكنه لم يصدر هذه المرة عن المرجعية التي كانت منشأ مواقفهم وآرائهم قبل هذه اللحظة من التاريخ.
حصل هذا تحديداً مع صدمتهم الحضارية، وهم يرون، مرةً تلو أخرى، مظاهر الانهيار الكبير والفشل المُخزي والشامل للمنظومة الأخلاقية التي كانوا مؤمنين، بلسان الحال قبل لسان المقال، أنها كانت تصدر عن مرجعية الفلسفة والعلم في مجتمعاتهم (المتقدمة). ثم إن خيبة أملهم الصارخة تجلت أكثر في تعليقاتهم الصريحة والقوية، والجارحة أحياناً، مستعملين لغة جيلهم، تجاه النظام السياسي والاجتماعي والحقوقي والثقافي والاقتصادي الذي كانوا يعتقدون أنه منبثقٌ من تلك المنظومة الأخلاقية، ومبنيٌ على أركانها.
لسنا هنا، بطبيعة الحال، في مقام (استغلال الفرصة بشكلٍ انتهازي) لإلغاء قيمة العلم والفلسفة في هذا العالم، من قريبٍ أو بعيد. وسيكون من السخف، منهجياً، الإيحاء بأن ما نطرحه يحمل في طياته دعوةً لتجاوز كل هذا البناء الحضاري الذي أنجزته البشرية انطلاقاً من معطيات الفلسفة والعلم، وفي كل مجالٍ من مجالات الحياة.
تلك هي، تحديداً، عقليةُ إما / أو، وأبيض / وأسود، وخيرٌ مطلق مقابل شرٍ مطلق، التي تقع فيها شرائح من المؤمنين، في كل دين، وتتعامل مع الناس ودُنياهم بناءً عليها، وبشكلٍ حدّيٍ تضيع معه كل إمكانيات فهم الناس وفهم الحياة على حدٍ سواء، بكل ما فيها من تشابكٍ وتعقيدٍ وتداخل في مكوناتها العديدة. الأمر الذي يُصبح مدخلاً للعجز في التعامل معها إيجابياً، وبالتالي، نافذةً للانسحاب منها والعيش في زواياها بعقلية المذعور.
لكن المفارقة أن تلك العقلية بِذَاتِها هي عقلية الثنائياتٍ، التي تحاولُ شرائحُ ممن يُفترض انتماؤهم لدوائر المثقفين والمفكرين والأكاديميين استخدامَها لمُحاصرة مَن لا يلتزم بتعريفاتها الحصرية للتقدم والتنور والحداثة في الزاوية. وهي شرائحُ، في طريقها لفرض تصوراتها المعرفية، تُحاول وضع مقابلةٍ حاسمةٍ بين “الله” من جهة، و”الفلسفة والعلم” من جهةٍ أخرى. ثم إنها، مسلحةً بسيوف التصنيف والإرهاب الفكري، تَقسرُ (المُشتبهين بالخروج على النظام)، على أن يواجهوا، بصرامة، عملية اختيارٍ مصيرية بين طرفي المعادلة.
بهذا، نُصبح كعربٍ ومسلمين، وكنُخبٍ فكريةٍ تحديداً، جزءاً من المشكلة، بدل أن نكون جزءاً من الحل. وبينما نشكو من انهيار المنظومة الأخلاقية العالمية، ومن المشكلات الأساسية داخل الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والحقوقية المنبثقة منها. في عمليةٍ يلوح لأول وهلةٍ أن تكون مدخلاً يؤهلنا للمشاركة في إصلاحها برصيدنا التاريخي الثقافي والفكري والعلمي، وما فيه من خصوصيات ليس كثيراً أن تكون فيها إضافةٌ معرفية. بينما نحن في هذا الموقع، نُطلق النار على أقدامنا بالإصرار على الاختيار الحاسم والنهائي بين طرفي تلك الثنائية الموهومة، لنقذف بأنفسنا إلى عصر “نيتشة”، محاولين إعادة اختراع عجلته التي اهترأت على مرّ العقود من التجارب البشرية.
خاتمة
إن مشروعية الحديث عن “عودة الله”، بهذا التعبير، وبآفاقه القيمية والأخلاقية الواسعة، تبدو أوضحَ حين نتقبل الصدمة المتمثلة في هزالة وخنوع وسلبية وخذلان العرب والمسلمين، ودرجة افتقاد الشعور بالمسؤولية لديهم، حين يتعلق الأمر بموقفهم من أحداث غزة.
ولو أن ثمة ما يمكن رؤيته في الواقع العربي والإسلامي مما يمكن أن نسميه “عودة الإسلام”، لكان الحال غير الحال. فهذا الواقع يُظهر، دون إمكانيةٍ للجدل، بأن مسألة الانتماء الديني، وحتى القومي، المشترك لم تستطع أن تكون مصدراً لأي فعلٍ بشريٍ إراديٍ حقيقيٍ فعال يقوم به العرب والمسلمون على امتداد شهرين من جرائم ومجازر لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثالاً، تستهدف قومهم وبني جلدتهم وإخوة دينهم وعروبتهم.
ونحن إذ نُعرِضُ في هذا المقام عن الإشارة إلى ممارسات الدعاء ومشاعر الحسرة والألم، والتي تبدو رصيد العرب والمسلمين وزادهم العتيد، والوحيد، هذه الأيام، فلأنّ الحديث فيها لن يؤدي سوى إلى تأكيد حقيقة عجزهم وتقصيرهم وعَطالتهم الكلية.
ثمة حكمةٌ بالغةٌ في أن يشهد العالم حدثاً (كونياً) بهذا الحجم، وأن يكون راضاً وعنيفاً بهذه الدرجة، وأن يؤثر بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر على الملايين في أطراف الأرض الأربعة. حدثٍ يخترق كالسهم رتابة حياتهم اليومية، ويجدون أنفسهم مضطرين لأن يكونوا جزءاً منه، حتى لو لم يكن لهم أي رأيٍ في حصوله ابتداءً.
وإذا لم يكن ثمة بدٌ من استدعاء “نيتشة” نفسه لمحاولة إقناع البعض، فقد قال الرجل: “عند سماعهم أن الإله القديم قد مات، فإننا نشعر نحن الفلاسفة والأرواح الحرة ببزوغ فجر جديد. ومع زوال النظام القديم للمعنى، يمكن إنشاء نظام جديد، لكنه سيضع معظم الناس في مواجهة خطر اليأس أو الإحساس بعدم جدوى الحياة، وسيأتي محملًا بالمخاطر؛ تلك التي يمكن أن تُبرز أسوأ ما بداخل الطبيعة البشرية”.
من الجلي في خضم هذه الأحداث أن إله “نيتشة” الجديد قد مات، وأن أسوأ ما بداخل النفس البشرية برز إلى سطح العالم ظاهراً للعيان.
وإذ يؤمن الصادقون من المؤمنين بحضور الله، حضوراً لا يقبل أي غياب. غير أن “عودة الله” هنا تبدو بمثابة تدخلٍ جراحيٍ جذريٍ، يبدو حصوله حتمياً في ذروة هذه الأزمة الإنسانية غير المسبوقة. ونحن إذ استصحبنا معنى مقولة (قلبِ التحدي إلى فرصة)، فربما تكون العودة المذكورة، في جوهرها وحقيقتها، مدخلاً لشروع تلك الملايين في عملية الاستعادة لمنظومةٍ أخلاقيةٍ إنسانيةٍ، بات واضحاً أن ثمة حاجةً ماسةً إليها، وتحديداً من قِبَل العلم والفلسفة، على طريق محاولة تصحيح مسار البشرية جمعاء.
المصدر: معهد العالم للدراسات