قرار (أو بالأحرى: اضطرار وإجبار) كلودين غاي، رئيسة جامعة هارفارد الأمريكية، الاستقالة من منصبها مؤخراً، كان فصلاً إضافياً، ولعله الأكثر دراماتيكية حتى الساعة، في جولات «صيد السَحَرة» التي يديرها اليمين وغالبية مجموعات الضغط اليهودية والإسرائيلية في الولايات المتحدة، ضدّ الحياة الأكاديمية عموماً، وحرّيات التعبير داخل الحرم الجامعي للطلاب والأساتذة خصوصاً. الخلفية ليست خافية البتة، إذْ أنها تدور علانية حول المواقف من حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وكذلك في عموم فلسطين التاريخية؛ وأمّا جذورها فتضرب عميقاً في ذهنيات محافظة ويمينية عريقة، لا تنحسر تارة إلا لتتصاعد أكثر وأشدّ شراسة تارة أخرى.
ونتيجة جلسة استماع في الكونغرس، مطلع كانون الأول (ديسمبر) الماضي، لثلاث من رئيسات جامعات أمريكية بارزة، حول التسامح مع خطابات وأنشطة للطلاب مناصرة للفلسطينيين اعتُبرت معادية للسامية؛ سارعت إليزابيث ماجيل من جامعة بنسلفانيا إلى الاستقالة، تبعتها غاي مؤخراً، ولم يبقَ في الميدان سوى سالي كورنبلث من معهد ماساشوستس. طريف، ولافت تماماً، أنّ رأس الحربة في الاستجواب كانت النائبة عن الحزب الجمهوري إليز ستيفانيك، الشهيرة بوقوفها خلف ادعاءات الرئيس الأمريكي السابق ببطلان الانتخابات الرئاسية لعام 2020، والأشهر بأنها من دعاة نظرية «الاستبدال الكبير» العنصرية القائلة بمحو الأمريكيين البيض على أيدي مهاجرين غير بيض؛ ثمّ الأكثر شهرة في إعلانات دعائية عنصرية فحّة خلال حملتها الانتخابية.
لم تغبْ عن ملابسات قيادة ستيفانيك للاستجواب في الكونغرس حقيقةُ أنها كانت تمارس طرازاً من الانتقام الشخصي، بالنظر إلى أنّ هيئة معهد السياسة في جامعة هارفارد سبق أن أبعدتها عن عضوية الهيئة بسبب مزاعمها الزائفة حول نتائج الانتخابات الرئاسية. صحيح أنّ غاي لم تكن يومها رئيسة الجامعة، فهي لم تشغل المنصب سوى ستة أشهر؛ وأنّ هيئة إدارة المعهد مستقلّة في قراراتها؛ إلا أنّ رغبة معاقبة الجامعة يصعب أن تُستبعد من مجموعة نوازع متأصلة لدى ستيفانيك وأضرابها من ممثلي اليمين المحافظ، حول اتهام الجامعات الأمريكية بالخضوع لتيارات اليسار ونظريات ما بعد الاستعمار والـ»ووك»…
وفي مقال رأي، نشرته بالأمس صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، تطرقت غاي إلى عدد من النقاط التي اعتبرت أنها تكمن فعلياً في خلفية استقالتها، أو بالأحرى اضطرارها إلى هذا القرار؛ على رأسها «مساءلة التزامي بمحاربة العداء للسامية» ولكنّ مضمونها الأبرز هو «نسف المُثُل التي أحيت هارفارد منذ تأسيسها: التميّز، الانفتاح، الاستقلال، والحقيقة». وأولى نتائج حملة ستيفانيك وأضرابها تمثلت في إغراق بريد غاي برسائل الشتائم، والتهديد بالقتل، وإطلاق صفة الـN-word التي تشير إلى المحتد الزنجي. ولم تغفل غاي التشديد على التالي: «الحملة ضدي كانت تتجاوز جامعة واحدة ورئيساً واحداً. ذلك كان مجرد اشتباك واحد في حرب أعرض لتقويض الإيمان العام بأعمدة المجتمع الأمريكي». وهذا لأنّ «المؤسسات الموثوقة من كلّ الأنماط، من الصحة العامة إلى وكالات الأنباء، سوف تسقط على الدوام ضحية محاولات منسقة لتدمير شرعيتها وتخريب مصداقية قادتها».
وفي فقرة، حاسمة على نحو خاص لأنها تضرب بجذور الواقعة في أعماق أخرى ليست أقلّ مغزى على مستويات اجتماعية وسياسية وسلوكية وإيديولوجية، تكتب غاي: «لست غافلة أنني أشكّل مادة خام مثالية يُرشق عليها كلّ قلق حول المتغيرات الأجيالية والديمغرافية التي تحيط بالحرم الجامعي: امرأة سوداء اختيرت لقيادة مؤسسة مرموقة. امرأة تنظر إلى التنوّع كمصدر للقوّة والدينامية المؤسسية. امرأة دافعت عن المناهج الحديثة التي تتراوح بين علم الكمّ إلى تاريخ الأمريكيين الآسويين المهمل طويلاً. امرأة تؤمن بأنّ ابنة مهاجرين من هاييتي يمكن أن تقدّم شيئاً للجامعة الأقدم عند الأمّة».
والحال أنّ واقعة استجواب قيادات الجامعات على خلفية التهمة العتيقة، العداء للسامية مترافقة مع معاداة الصهيونية، تدخل في سياق أوسع نطاقاً وحمّال دلالات عديدة؛ هو، في إيجاز قد لا يقتضي الكثير من التفصيل، الاهتراء المتصاعد لسياجات التحريم التي كانت تحظر، في مستويات ردعية قانونية وتشريعية، التطرّق إلى المفهوم في ذاته، أوّلاً؛ فكيف بتدقيق أصوله التاريخية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية، وكيف (تحديداً، في الواقع) بما اكتنفه ويكتنفه من أساطير وخرافات، ومن تشويه وتلفيق واختلاق. ذلك لأنّ جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وحروب الإبادة والتطهير العرقي واستهداف المشافي والمدارس والملاجئ والأسواق، وممارسات النهب التي تبدأ من الأطفال الرضع ولا تنتهي عند مكاتب الصرافة… أسقطت، وتواصل إسقاط، المحرّم والممنوع والمسكوت عنه بصدد المعنى الفعلي للتهمة العتيقة، وما إذا كانت مجرّد فزّاعة لدى دولة الاحتلال وأنصارها مجموعات الضغط الصهيونية واليهودية، أخذت تتآكل وتهترئ وتنكشف.
وأيّ تطرّق، جدّي الطابع ومنعتق من كوابح التحريم، إلى شيوع العداء للسامية في الولايات المتحدة تخصيصاً؛ لا يصحّ، منهجياً على الأقلّ، أن يتجاهل الواقعة النوعية التي شهدت إقدام المواطن الأمريكي جيمس فون برون، 88 سنة، على اقتحام متحف الهولوكوست في قلب واشنطن، على مرمى النظر من البيت الأبيض، مدججاً ببندقية، حيث أطلق النار فجرح عدداً من حرس المتحف وأودى بحياة أحدهم، قبل أن يخرّ هو نفسه صريع طلقاتهم. كان الرجل، للإشارة المفيدة، أبيض البشرة، ضابطاً سابقاً في البحرية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية، حائزاً على أربع نجوم تقدير بسبب بسالته في القتال، حامل بكالوريوس في الصحافة، وعضواً في جمعية Mensa التي تزعم أنها تضمّ الـ 2٪ الأذكى في الولايات المتحدة.
المعلومات التمهيدية أفادت بأنّ الرجل لم يكن يخفي أفكاره الكارهة لليهود، وهذا ما يلمسه المرء دون عناء عند زيارة موقعه الشخصي على الإنترنت، وقراءة بعض كتاباته وبينها مقالة بعنوان «خطأ هتلر الأسوأ: أنه لم يحرق اليهود بالغاز!» على سبيل المثال الأوضح. كان لديه، كذلك، كتاب بعنوان مستمدّ من عبارة شهيرة جاءت في التلمود، وتُنسب إلى الحاخام شمعون بن يوشاي، تقول بالحرف: «أقتلوا حتى الأخيار في صفوف الوثنيين اللايهود» والتي تبدو ـ إذا انتُزعت من سياقاتها التاريخية والحربية الصرفة، كما يساجل بعض فقهاء التلمود ـ دعوة صريحة إلى الإبادة الجماعية.
لكنّ فون برون، على نقيض ما حاولت أن توحي به وسائل الإعلام الأمريكية، لم يكن حالة «منعزلة تماماً» سواء على المستوى الفردي، أو حتى ضمن نطاق منظمته التي يطلق عليها اسم «إمبراطورية الغرب المقدّسة»؛ بل يندرج في تراث أمريكي واسع ضارب الجذور، لعلّ «جبهة العاصفة» Stormfront هي أفضل تعبيراته اليوم. وهذه المنظمة أطلقها سنة 1994 دون بلاك القيادي السابق في منظمة Ku Klux Klan العنصرية، ثمّ القيادي في «حزب البيض القومي» الذي كان اسمه «الحزب النازي الأمريكي» حتى العام 1967. وتقول الإحصائيات إنّ عدد زائري الموقع ارتفع من 5000 سنة 2000 إلى 52,500 سنة 2005، كما أنّ أعداد المنتسبين الجدد إلى هذه المنظمة تجاوزت الـ 2000 بعد وقت قصير من إعلان فوز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية.
والأرجح أنّ النائبة الأمريكية ستيفانيك تدرك جيداً طبائع الروابط الوثيقة بين العداء للمهاجرين والعداء لليهود، ضمن نظرية «الاستبدال الكبير» ذاتها في المقام الأوّل؛ وأنّ اهتراء فزاعة العداء للسامية يمكن أن يطلق وحوش النظرية من مكامن المحرّم فيكرس سياج التحريم، بما يعني أنّ الإطاحة بأمثال رئيسة جامعة هارفارد لن يكون أكثر فداحة من مزحة… ثقيلة الظلّ!