خاص – حازم العريضي
في مقابلة المؤرّخ الإسرائيلي د. “نوح هراري” مع “بيرس مورغان” على برنامجه التلفزيوني الأشهر أمس الخميس، يقول هراري:”نحتاج إلى خلق مستقبلٍ للفلسطينيّين، في قطاع غزّة وفي الضّفّة الغربيّة، على نحوٍ يمكّنهم من العيش بكرامة في وطنهم”، ويؤكّد هراري أنّ على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يخرج من السّلطة.
بالمقابل، يُؤخذ على كلام هراري أنه لا يشير إلى أحد أصول المشكلة الحاليّة، ومنذ عقود، في الشّرق الأوسط ألا وهي دور طهران المتمثّل بسلطة علي خامنئي زعيم الثّورة الإسلاميّة الإيرانيّة وقائد ميليشياتها التخريبيّة في المنطقة ويكتفي هراري بالاشارة إلى الحركة التي يقودها “اسماعيل هنيّة”، وهذا يوافق ما أراده خامنئي من الاختباء والتّراجع خطوة الى الخلف عن المساهمة الفاعلة في مشهد الصّراع اليوم ليضع الفلسطينيّين بكلّيّتهم في الواجهة وحدهم.
الفيلسوف الإسرائيلي هراري يقول في مطلع المقابلة المُشار إليها(26 October ) “لن يكون هناك سلامٌ فقط بنزع سلاح (الحركة التي يقودها “هنيّة”)، وإنّما نحتاج أيضاً إلى خلق مستقبلٍ للفلسطينيّين، في قطاع غزّة وفي الضّفّة الغربية، على نحوٍ يمكّنهم من العيش بكرامة في وطنهم”، وهي لهجة خطابٍ تستحضر مقولاتٍ جريئةً يقتصر قولها اليوم على بعض المثقّفين الليبراليّين في عموم الغرب، وذلك بمعزلٍ عن الطّبقة السّياسيّة الرّسمية التي تبدو خائفةً من اتّخاذ مواقف شجاعة تصنع سلاماً حقيقيّاً، وكان حريّاً بعواصم القرار الغربي أن ترتقي بحلّ الاستعصاء الإسرائيلي-الفلسطيني إلى حيث تكون الحلول الجذريّة للقضيّة على قواعد شرعة حقوق الإنسان والمصلحة الاستراتيجيّة لجميع الأطراف في حلٍّ مستدامٍ للصراع، وذلك لا بدّ أن يجسّد الضّمانة كي لا يعود المشهد إلى انتكاسات متكرّرة ومشابهة لما يحدث اليوم في غزّة ومنها إلى عموم الشّرق الأوسط، وإلى العالم أجمع.
مأخذٌ آخر على طروحات نوح هراري، في مقابلته تلك، يكمن في تشابه مفاد بعض كلامه اللاحق مع ما أُشيع من دفع الغزّاويّين خارج القطاع وتحديداً إلى خارج الحدود، وذلك في إشارته إلى ضرورة استقبال اللاجئين الفلسطينيّين في مصر، مع أنّ هراري يستدرك بقولٍ، قد يعدّه البعض جريئاً، إذ يقترح فيه شيئاً نظريّاً متعلقّاً بإيجاد “ملاذات آمنة للمدنيين من قطاع غزة” إلى إسرائيل (حسب قوله/ فلسطين حسب قول الفلسطينيّين)، وفي هذا يقول هراري:
“من منظورٍ مثاليّ، يجب أن يكون هناك طريقة ليخرج المدنيّون (الفلسطينيّون في غزّة) من مناطق القتال. مصر التي تتشارك حدوداً مع قطاع غزّة يجب أن تكون على استعداد لقبول المدنيّين في فترة الحرب لحمايتهم، وأنا أودّ أن أقول حتّى إسرائيل عليها أن تبحث احتمال استقبال، على الأقل، النّساء والأطفال من قطاع غزّة في الأراضي الإسرائيليّة، وربّما السّماح للصليب الأحمر أو منظمات دوليّة أخرى ببناء ملاذات آمنة مؤقتة للمدنيّين الغزّاويّين على الأراضي الإسرائيلية خلال مدّة الصّراع، ولا أدري إن كان هذا ممكناً..”
وبذا ينزل المفكّر هراري من علياء الفلسفة واتّساع أفق التّاريخ إلى “زواريب السّياسة” المنسجمة ضمناً مع ترويج اليمين الإسرائيلي لتهجير الفلسطينيّين إلى مصر حلّاً لخطر تكرار ما حدث في 7 اكتوبر من هذا العام ولو بصيغة مخالفة للّهجة الفَضّة التي يروّجها نتنياهو، بطريقة ما، ألا وهي “تأمين ملاذات آمنة ” لهم خلال الحرب.
وبخلاف مصلحة إسرائيل نفسها، تثبت وقائع القصف الذي أودى بحياة كثر من المدنيّين الفلسطينيّين حتّى اللحظة انتقاماً لمقتل مدنيّين إسرائيليّين في 7 أكتوبر، بحسب خطاب نتنياهو، تثبت السّيناريو الاستراتيجي الذي تحاول حكومة نتنياهو إنجازه بتهجير سكّان قطاع غزّة إلى مصر، وعليه تبدو لغة هراري في طرح نقل الفلسطينيّين إلى ملاذات آمنة في مصر مراوغة سياسيّة أو على أقل تقدير “سذاجة” تخالف تاريخه الأكاديمي الغني والشّهير على مستوى العالم.
مواقف هراري المؤرّخ المفكّر المعتادة، التي يعجبني كثيرٌ منها، تعود لتظهر في مقابلته مع بريس مورغان حين يشرح ضرورة المرونة في تجاوز بعض تعقيدات “الصّواب” والحق من وجهة نظر أيديولوجيّة مبنيّة على سرديّة تاريخيّة معيّنة عند كلٍّ من الأطراف المتصارعة لأجل تغليب التّسويات المؤديّة إلى السّلام، وبعض ما يقول هراري في ذلك:
“.. يجب علينا ألّا نستخدم جراحاً تاريخيّة لتسويغ جراحٍ إضافيّة.. ”
هنا يعود المؤرّخ هراري ليخالف من حيث المبدأ اليمين الإسرائيلي وجملة المتطرّفين في الشّرق الأوسط، وأخطرهم برأيي الشّخصي هم الميليشيات التّابعة لإيران من جهة ومتطرّفي اليمين الإسرائيلي الدّاعي منهم للعنف من جهة أخرى، وذلك انسجاماً مع نسبة لا يُستهان بها من السّوريّين.
وفي هذا السّياق بالذّات، كما أن هناك ضحايا جُدد وتعميق لجراح الماضي في الصّراع الذي يذكره هراري؛ يذكر السّوريّون الثّمن الذي دفعوه لشعارات “يا لثارات الحسين” و “زينب لن تُسبى مرّتين” التي أطلقتها الميليشيات التابعة لإيران في سوريا، ويعلمون لزوم إخراج هذه الميليشيات من بلادهم لأجل سلام مُستدام.
كما أتّفق مع ما أكّد عليه هراري في ضرورة خروج بنيامين نتنياهو من السّلطة لأجل السّلام، خاصّة وأنّ هراري يرى في ذلك شرطاً لازماً وإن لم يكن كافياً للسّلام في المنطقة ومصلحةً حقيقيّة لإسرائيل، وذلك مع أنّ هراري أغفل، عن قصدٍ أو بغير قصد، أنّ خامنئي إيران يتشارك المسؤوليّة مع نتنياهو في تدمير فرص السّلام والازدهار في المنطقة ولأبنائها.