يا لها من مغامرة! تكاد تتجاوز حدود إيصال المساعدات الغذائية والطبية إلى المحاصرين بين نيران الأسد والإيرانيين والروس. لماذا تفعل؟ لأنها تخصّ العقل وتنميته، وترتبط بالأطفال وتنشئتهم، وتكسر حصار الجهل الذي أريد له أنه يطبق على آلاف النساء والرجال والصغار في عمق البادية السورية حيث مخيّم الركبان المنسي.
بدا لي الصديق معاذ مصطفى المدير التنفيذي لفريق الطوارئ السوري SETF مغامراً أكثر منه سياسي، يتنقّل من ملف إلى آخر، وكلها ملفات ساخنة، من الشاهد الملك “قيصر” إلى حفاري القبور، إلى التأثير السياسي، ثم إلى معالجة جرحى الحرب الجائرة والظالمة ضد السوريين، ثم يفكّر في الوصول إلى مكان بعيد عن الأنظار، لطالما تجاهلته المنظمات الإنسانية والجهود الدولية، حيث يعيش ثمانية آلاف سورية وسوري تعصف بهم رياح الظلم والإهمال والحاجة.
بنجاح فريق الطوارئ السوري بكسر الحصار على مخيم الركبان أول مرّة، كان الأمر يستحق الاحتفال، لكن كانت لدى معاذ غصّة وهو يعطي التصريحات منتشياً بتمكّنه من الاستعانة بالجيش الأميركي لفك حصار المخيّم عبر عملية “الواحة السورية”، كان يفكّر في الأطفال. ماذا يجب أن نقدّم لهم؟ المزيد من الطعام؟ ألعاباً للتسلية؟ لا يكفي.
هؤلاء عاشوا سنين طويلة بلا مدارس، بعيداً عن صفوف العلم، وبعيداً عن تقاليد التربية الحديثة، ما الذي سينتج عن ذلك؟ جيلٌ من الضحايا وجيل من القنابل الموقوتة.
قال إنه يريد أن يرفد المساعدات الإنسانية بكتب مدرسية يمكن من خلالها لهؤلاء الصغار أن ينالوا فرصتهم في التعلّم، لكن الاستنزاف الكبير الذي تتعرّض له منظمته نتيجة العمل، لم يبق لديها من الموارد ما يكفي، وكلفة طباعة ونقل مثل هذه الكتب المدرسية تكاد تصل إلى 100 ألف دولار. وهنا بدأ دور منظمة “غلوبال جستس” Global Justice ورئيسها هيثم البزم ومديرة مشاريعها ميساء قباني التي تعهّدت بتأمين كافة التكاليف لطباعة الكتب المدرسية.
بقيت مهمّة الشحن، ومن لا يعرف الواقع سيعتقد أن الأمر سهل.
لا توجد طرق بريّة تصل بين جنوب تركيا ومخيم الركبان سوى الأراضي السورية والعراقية. ولا يمكننا بالطبع نقل شيء عبر الشمال السوري الذي يسيطر عليه حزب العمال الكردستاني PKK وواجهته “قسد”. بقي أمامنا شمال العراق حيث إقليم كردستان.
لكنك ستندهش إن علمت أنك بوسعك شحن السلاح والمخدرات والبشر عبر الحدود التركية مع إقليم كردستان العراق، لكن يحرّم عليك نقل كتاب مدرسي واحد باللغة العربية!
ماذا يمكن أن تفهم من ذلك؟ لا بأس. هذا هو المتبّع ولعل لدى حكومة إقليم كردستان أسبابها في هذا التحريم الصارم للغة العربية. لكن ما العمل؟
كان علينا أن نسلك طريقاً أخرى تمرّ عبر “دولة مجاورة”. طريق طويلة ستستغرق آلاف الكيلومترات قبل أن تصل شحنة الكتب إلى الأراضي العراقية حيث “قاعدة عين الأسد” الأميركية، ومن هناك سيتم نقلها جوّاً بالطائرات إلى قاعدة “التنف” ثم إلى مخيم الركبان، لم يكن لدينا أي خيار.
المشكلة الأخرى أن هذه الدولة المجاورة “دولة معادية” للسوريين وللأميركيين في الوقت نفسه. وهي من يطبق الحصار على سكان مخيم الركبان. لكن كانت إحاطة الأمر بالسريّة كفيلة بإنجاحه.
تم تصدير الكتب إلى “الدولة المجاورة”، وعبرت الشاحنات المسافات الطويلة، وكانت تتحرّك ليلاً كي لا تلفت الأنظار. ثم جرى تهريبها إلى العراق وتسليمها في مكان سرّي بعيداً عن الأنظار.
وبقيت مهمّة أكثر صعوبة، هي إيصال الكتب إلى قاعدة عين الأسد داخل العراق، من بين حواجز الميليشيات الطائفية المنتشرة هناك بكثافة.
أسابيع مرّت، ونحن نتابع تحرّك شحنة الكتب، حتى وصلت بأمان. ليجري نقلها إلى المخيّم. والإعلان عن ذلك كما رأى الجميع في بيان فريق الطوارئ السوري.
هذه المغامرة هي جزء من العمل السوري الجليل الذي يقوم به كثيرون بصمت، ليلا نهاراً، لإنقاذ السوريين من الكارثة التي حلّت بهم بإصرار نظام الأسد الوحشي على اتخاذ الأبرياء رهائن، وإمعانه في إجرامه بحقّهم سواء كانوا عسكريين أو مدنيين، كباراً أو صغاراً، لا فرق عند القاتل الذي تجاوز حدود الهمجية إلى ما لا يمكن تصوّره. وفي الوقت الذي كنا نكرّم فيه جيري آدامز في غازي عينتاب، كانت شحنة الكتب تتحرّك، وكانت آمال الأطفال بتلقي العلم تكبر وتكبر.
وفي الوقت الذي كان وفد أعضاء الكونغرس الأميركي يعبر الحدود السورية التركية ليلتقي بالأطفال هناك، كان أبناء جلدتهم من السوريين في مخيّم الركبان يستعدون لفتح الصناديق والتعرّف على المنهاج المدرسي لأول مرّة بعد سنين من الحصار. سنفعل ذلك مرة أخرى وبطرق مختلفة ومع شركائنا وشركاء آخرين، ولن تمنعنا من الوصول إلى المستقبل أي قوة غاشمة تتوهّم قدرتها على ذلك.
المصدر: تلفزيون سوريا