الحقيقة القائلة إن نسبة من ينتمون إلى عشيرة أو قبيلة من السورين تتراوح ما بين 60 و70 في المئة من مجموع السكان، جعلت من معضلة الحامل الاجتماعي، أكبر ما يواجه السوريين في نظرتهم وتحليلهم لما دار ويدور في بلادهم، ليس فقط منذ انطلاق انتفاضتهم في عام 2011، بل منذ تشكّل الدولة السورية المستقلة الأولى وحتى اليوم.
ولأن كثيرين قفزوا فوق فكرة الحامل الاجتماعي، بسبب تعقيداته والاستحقاقات المترتبة عليهم، إن هم أرادوا بالفعل التصدي للتعامل معه في سياق انخراطهم في الشأن العام ومن بينه العمل السياسي والاجتماعي وما يشبهه، فقد بقي الحامل الاجتماعي يشكل الثغرة الكبرى التي منها يتسلّل كل فشل واجهته السياسة في سوريا. وظلّ الحامل الاجتماعي هذا بمثابة الخاصرة الضعيفة التي بواسطة الضغط عليها تمكّن الاستبداد من ليّ ذراع أي مشروع سياسي ظهر في سوريا.
الفرار من مسؤولية إدراك العلاقة مع الحامل الاجتماعي، هو الذي خلق فكرة “الانقلابية” لدى حركات سياسية عديدة لم يكن حزب البعث العربي الاشتراكي وحيداً في تبنيها، بل تبعه اليسار السوري وكذلك الحركة السياسية الكردية بأحزابها المحلية والمستوردة؛ فما لا يمكن إقناع الشعب به، رأى هؤلاء أنه يمكن أن يطبّق هبوطاً من الأعلى بالفرض والقهر. ومن سوء الحظ أن هذا الخلل الفكري كان محللاً شرعياً للجيش كي ينقضّ على السلطة، فما دام السياسيون المدنيون يشرّعون لأنفسهم الاستيلاء على السلطة من الأعلى من دون انبثاق فكرتها من القواعد الشعبية، وهذا يتطلّب توافر القوّة لفرضه، فلماذا لا يقوم الأقوياء بذلك، ومن الأقوى من الجيوش؟
وفي تلك الدوامة وعبر ثناياها التي جرفت سوريا معها عقوداً طويلة، استمرت النخب تهرب وتتباعد عن القواعد الشعبية، وتصطدم مع من في السلطة، وبين عينها مشروع وحيد هو تطبيق قسري لمشاريعها السياسية بغض النظر عن قناعات الشعب.
لكن جذر هذه المشكلة، يظهر وبوضوح الآن، وأكثر من أي وقت مضى، قادماً من علاقة النخب مع الشعب ـ المجتمع، الذي رأت هذه النخب أنه غير مؤهّل لتبني فكرٍ متقدّم، أياً كان شكل هذا الفكر واتجاهه، فالمجتمع السوري غير قابل لاستيعاب الديموقراطية وحقوق الإنسان، في تصورهم، وذلك، بحسب توهّم النخب، بسبب تأثير الإرث الديني الإسلامي الرافض لكل ما يأتي من الغرب على مبدأ أنه “لن يسرّ القلب”، كما تسرد المقولة الشائعة، وهذا المجتمع أيضاً من الصعب عليه أن يتفّهم اختلاف الآخر، كما تعتقد النخب، والآخر كثيرٌ في سوريا، طوائف وأعراق وأقليات، بينما تعيش في هذا البلد غالبية عربية تعتدّ بهويتها، فكيف يمكن إقناعها بآخر كردي وتركماني وأرمني وشركسي وغيره؟، ولأن غالبية هذه الكتلة السكانية الضخمة من المسلمين السنة، فقد رأت النخب أنه من الصعب وربما من المستحيل تليين أفكار هؤلاء وجعلهم يتفهمون العيش مع عقائد مغايرة لهم.
ما الحل إذاً؟ توصّلت تلك النخب إلى أن الحل هو شيء يشبه الإنزال العسكري، لكن بالسياسة هذه المرة، بأن يجري رسم مجتمع مسبق، وتركيبه على المجتمع السوري، هيكل جاهز، قوالبه تتطابق مع معايير اللاعبين الأقوياء المؤثرين بسوريا ومستقبلها في كل طور.
تتقبّل تلك النخب الدوائر المغلقة للطوائف والأقليات السورية، وتتفهّم أهمية حمايتها من الذوبان، وفي الوقت ذاته لا تمانع من سحق الأغلبية العربية وتذويبها وتغيير هويتها. كما ترفض تلك النخب خطاب الهوية العربية للعشائر السورية، وتتقبله كما هو لدى المكونات القومية السورية الأخرى، بل تدعمه وترعاه وتتفاعل معه.
تتقبّل تلك النخب بحبور واسترخاء كل إشكالات الهويات الضيقة المغلقة، بما فيها مظاهر التشدّد والتحريم العنيف، وتدبك في احتفالاتها، بينما ترفض وتكفّر سلسلة القيم التي تتبناها الغالبية العربية المسلمة السنية.
هذا الخلل الفادح، شمل عمل المعارضة السورية، الرسمية منها وغير الرسمية، ومن بين مظاهره الشكل الذي اتخذته المؤسسات السياسية السورية المعارضة، والتي قامت على المحاصصة الخادعة والتلفيقية المدبّرة، فتم منح الأكراد السوريين من سكان الجزيرة على سبيل المثال 16 مقعداً في مؤسسة الائتلاف، وهم لا يشكلون سوى نسبة 20٪ من سكان الجزيرة، بينما عرب الجزيرة السورية والذين يشكلون أكثر من 80 ٪ من تعداد السكان في الجزيرة ذاتها، جرى منحهم 6 مقاعد فقط. وهذا مثال فقط ويوجد مثله الكثير من الأمثلة. فإن كان المنطق هو المحاصصة القومية، فإن ذلك يوجب أن يكون الحال داخل هذه المؤسسة منعكساً عن الواقع لا منافياً له بهذه الصورة الهزلية.
وقد كشفت انتفاضة العشائر العربية في ريف دير الزور ضد ما تعرف باسم “قسد” التي يهيمن عليها حزب العمال الكردستاني PKK ويقودها من جبل قنديل، تلك المشكلة مجدداً، حين رأى كثير من السياسيين السوريين أنفسهم في مواجهة جديدة مع المجتمع، وفي إحراج “حداثي” لم يحسبوا له حساباً، أربك خطابهم وذكّرهم بما هربوا منه سابقاً.
كيف سيتعاملون مع انتفاضة عشائرية وهم يرفعون لافتات مدنية حداثوية تطالب بسوريا بعيدة كل البعد عن الأنساق القديمة في المجتمع، وتريد دولة مدنية متقدّمة تشبه النموذج الغربي بمساطر جاهزة؟
ولأن الوظيفة المنزلية الأولية لهؤلاء كانوا قد تهرّبوا منها مبكراً؛ وهي تحليل وفهم المجتمع السوري، وتالياً بنوا كل إرثهم السياسي على أساسٍ يفتقد إلى أهم ما يلزم الناطقين باسم المجتمع – الشعب، إذ كيف يمكنك تمثيل شعبٍ لا تفهمه، ولا تعرف ما فيه، ولستَ على انسجام مع عاداته وتقاليده؟ بل إنك تعيش اغترابك التام عنه وقطيعتك معه دون أن يرفّ لك جفن، لهذا واصلوا تهرّبهم من تلك المسؤولية، وقرّروا أن الحل هو بالترفّع على تلك الانتفاضة واعتبارها مظهراً من مظاهر التخلف “العربي السوري”.
في الوقت ذاته عاش بعض المنتمين إلى هذه النخب الفكرية والسياسية ويعيشون في كنف تحالفات وعلاقات وثيقة تربطهم بدول الخليج العربي، وهي دولٌ قامت أساساً على البنى العشائرية العربية، ونجحت في قيادتها نحو نهضة اقتصادية وتنموية هائلة. فحلّلت تلك النخب لأنفسها قبول دعم دول الخليج العشائري السياسي والمالي، ورفضت في الوقت ذاته تقديم أدنى الدعم لعشائرها العربية في سوريا.
إن هذا الاستحقاق الذي يجسّده التفاعل الواقعي مع المجتمع السوري، غير قابل للتهرّب منه إلى الأبد، وهو قادم لا محالة، وحين سيأتي سيجد هؤلاء أنفسهم في أمس الحاجة إلى المزيد من الهرب، وهو هذه المرة هربٌ للخروج من المشهد والقدرة على التأثير.