ورث الأسد الابن عن أبيه الهروب للأمام للتخلص من مآزقه المحيطة به، حيث يلجأ لافتعال أحداث تغطي أو تحجب الأضواء عن أحداث أخرى تُؤرّقه.
لم يكن (الأسدان الأب والابن) يُلقيان بالاً لتأثير أيّ حدث على الوضع الداخلي، فلا يهمهما سوء الحالة المعيشية للشعب مثلاً ولا يهمهما ملامسة قضاياه الحقيقية حيث عندما تقبع سوريا في ظلام بسبب عدم توفير الكهرباء أو بفقدان مواد أساسية ضرورية للحياة أو تُفرض على الدولة عقوبات، ترى الإعلام الرسمي والمسؤولين بمختلف مستوياتهم يتحدثون عن محاربة الهيمنة الأمريكية وضرورة إنشاء عالم متوازن متعدد الأقطاب وضرورة تحرير فلسطين.
ومجمل الحركة السياسية لنظام الأسد تكون موجهة للخارج سواء عبر مواقف أو سياسات أو أفعال باعتبار أنّ الداخل محكوم بقبضة أمنية شديدة ويجري وراء تأمين لقمة العيش المغمسة بالعرق ويقال بالدم أيضاً.
لكن في الآونة الاخيرة ومنذ بداية العقد الحالي بدأ الأسد يلتفت لأهمية الوضع الداخلي أكثر بكثير من السابق، وقد يكون أدرك أنّ سقوطه لن يأتي من الخارج (كالقذافي وصدام حسين) بل من الداخل أو باستثمار الخارج لحوامل داخلية مستعدة للتغيير.
بعد أن فعل الأسد ما فعل في سوريا والمجتمع السوري خلال سنيّ الثورة الثلاثة عشر المنقضية، بحيث لم يتحقّق انتصار وعد به حاضنته، ولم يتمكّن من اختراق أسوار العزلة المضروبة حوله لمنع تعويم نظامه إقليمياً ودولياً بعد أن كان يوهم نفسه وجمهوره أنه ضرورة للنظام الإقليمي في الشرق الاوسط لا غنى عنه أو لا بديل له.
مآزق الأسد الثلاثة
1- العقوبات الغربية والأمريكية خاصةً
بدأت مآزق الأسد تتوضّح أكثر بعد صدور قانون قيصر وغيره من العقوبات الغربية والتي أجهضت عملياً أيّ فرصة حقيقية لتحويل استعادته لأكثر من نصف الجغرافية السورية بفعل التدخل العسكري الروسي، تحويله إلى إنجاز سياسي له ولروسيا، وفشل السياسة الروسية في تكريس الأسد منتصراً في الحرب السورية (والمنتصرون لا يُحاسَبون أو يُحاكَمون) وأمر واقع من الواجب التعامل معه.
2- المستنقع الروسي في أوكرانيا
تعمّقت خيبة الأسد أكثر بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وانشغال بوتين بهموم من نوع آخر وضعف الحضور الروسي السياسي في الساحة الدولية وتحوّل علاقة الغرب معه من احتواء أو شراكة أو توافق في بعض الملفات إلى صراع ساخن بالنار على أبواب القارة العجوز..
3- خسارة التعويم مع العرب
ازدادت مآزق الأسد بعد ضياع فرصة التعويم العربي ومحاولة العرب الأخيرة معه بإرجاع نظامه لشغل مقعد سوريا في جامعة الدول العربية لقاء مطالب محدّدة هدفها غير المعلن فَكّ الارتباط أو التبعية لمحور ولاية الفقيه، وبالطبع حاول الأسد الإيحاء للعرب بالسير معهم واعطائهم وعوداً زائفة لم تنطلِ على أحد، وبالتالي تَمّ تجميد أو إلغاء أيّ محاولة حقيقية لإبقاء شعرة معاوية معه.
ومِمّا عَمّق مآزقه السابقة كان اندلاع الحرب في غزة، وهي عملياً بين محورين.
محور ينتمي له الأسد يقوده نظام الولي الفقيه ويحاول الأسد القفز منه (بعد أن حماه من السقوط عسكرياً لكنه لم يتمكن من مَدّ الحبال له لحمايته من الغرق سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً) والمحور الغربي الذي تقوده أمريكا والذي يحاول الأسد مغازلته والوثوب إليه.. لأنّ هذا المحور عنده الحلول التي لا تستطيع روسيا وإيران تقديمها له.
وأصبحت مناطق سيطرته إحدى جبهات الصراع وفق مبدأ أو شعار توحيد الجبهات التي يتبنّاها محور ولاية الفقيه، حيث تدور حرب رمادية أقرب للبياض في مجمل أراضي سيطرته في سوريا وساحتها الرئيسية دمشق وضواحيها، ولا يعرف الأسد متى ستصيبه إحدى هذه الشظايا في مقتل، لكنه قد يكون متأكداً من ذلك ويسعى لتحاشيها قدر الإمكان.
التحديات الثلاثة التي تواجه الأسد
1- موقفه من حرب غزة
تحسّس الأسد بعد أحداث 7 أكتوبر الخطر المحيق به، فحاول النأي بنفسه عن المحور الإيراني والتنصّل من تبعات الحرب وتداعياتها ..سواء من الناحية العسكرية بالطلب من ميليشيات فيلق القدس عدم استهداف إسرائيل من مناطق سيطرته، وأصدر أوامره لإعلامه الرسمي بعدم المشاركة في التغطية الإعلامية للحرب، بمعنى تقديم صورة مختلفة عن الحشد العراقي وحزب الله في لبنان والحوثي في اليمن، وساعده في ذلك الرئيس الروسي عندما نصحه برفض أيّ طلب لشنّ هجمات ضد الدولة العبرية من مناطق سيطرته وتعهّدت موسكو بضبط جبهة الجولان ووضعها تحت حمايتها ورعايتها بإنشاء نقاط مراقبة عسكرية وتسيير دوريات جوية لطمأنة إسرائيل.
2- تحديات الوضع الداخلي المنهار
كما أسلفنا بعد أن عاد الأسد من قمة جدة العربية خالي الوفاض وانهيار العملة السورية ومستويات المعيشة، بدأت الاصوات الممتعضة في جبال الساحل بالصراخ، وتحوّلت الاحتجاجات المطلبية في جبل العرب بسرعة البرق إلى انتفاضة سياسية تطالب بإسقاط الأسد.
كما أنّ حالة الاقتصاد في مناطق سيطرة الأسد المنهار والذي لا حلّ له سيجعل من احتمال توسّع رقعة الاحتجاجات إلى جبال الساحل أمرا ليس بعيداً، خاصة في ظلّ عدم قدرة نظام الأسد عن تقديم ترقيعات خدمية واقتصادية تؤخّر الانفجار الموعود.
3- تدهور علاقته بإيران
كان واضحاً توقّف كل أشكال الدعم الروسي الفعّالة لنظام الأسد بعد الحرب في أوكرانيا، وعدم مساهمة العرب بأيّ جهد لإنقاذه بالإضافة لتتالي العقوبات الأمريكية والأوربية عليه.
وفي ظلّ تخصيص الأرباح المتحصّلة من الإتجار بالكبتاغون للإنفاق على أجهزة الأمن وبعض الميليشيا العسكرية التابعة له، كان المعوّل على إيران دائماً لإنقاذه في أوقات الشدّة.
لكن في الآونة الأخيرة طرأ برود شديد في العلاقات بين دمشق وطهران خاصةً بعد الحرب في غزة وظهور بوادر تمرّد من الأسد على أوامر أو سياسات الحرس الثوري، كالطلب من الحرس بعدم استعمال المطارات السورية لتهريب الأسلحة لسوريا ولبنان.
وظهر الخلاف للعلن أكثر وبصورة أخطر عند تسريبات إيرانية (غير رسمية) على تعاون بعض مفاصل أجهزة مخابرات الاسد في تقديم معلومات لإسرائيل تُسهّل لها مهمة اصطياد الضباط الكبار في الحرس الثوري في سوريا.
وتتزايد الضغوط الإيرانية على الأسد بتسريب طلبات غير رسمية بمطالبته بعشرات المليارات من الدولارات التي قدمتها طهران له بأشكال مختلفة.
واتهام نظام الأسد بعرقلة كل الاتفاقيات التي تمّ توقيعها بين البلدين وعدم تطبيق أيّ منها خاصةً رفض الأسد لمشروع المشغل الخليوي الإيراني.
بعد الهجوم الإعلامي الإيراني على الأسد ظهرت أزمة وقود حقيقية في مناطق النظام للضغط عليه أكثر وسببها عدم تزويد إيران له بناقلات النفط.
كل تلك المآزق والتحديات والتي يعجز نظام الاسد عن مواجهتها، فيلجأ لإجراء إصلاحات صورية في بنية نظامه الأمنية والعسكرية والحزبية، في محاولة منه لإرسال رسائل للخارج بأنه يقوم بإصلاحات مطلوبة منه، ورسائل إشغال للداخل بحركات مسرحية معروفة وممجوجة على أمل تأجيل الانفجار الداخلي الكبير.