صحيح أن المسلمين السنة تحملوا العبء الأكبر من أوزار الثورة التي قام بها السوريون في آذار 2011 فقُتل منهم ما يزيد على مليون، ولا أستبعد أن يكون عدد الضحايا منهم أكثر من مليونين بعد أن تمت إزالة الأنقاض في المدن المدمرة التي هدمت على ساكنيها في أكثر المدن السورية ازدحاماً، فضلاً عن القرى التي طُمرت في باطن الأرض بسكانها، لكن كل الطوائف السورية تعرضت للقصف والقتل العشوائي، ولاسيما حين بدأ النظام يستخدم البراميل المتفجرة التي تعد بالآلاف كما تقول المراصد، هذا فضلاً عن المعوّقين ويزيد عددهم على مليوني معوق من كل الأطياف. أما المعتقلون فقد كان عددهم حتى عام 2012 ثمانمائة ألف معتقل وهذه معلومة مؤكدة، ولا أعلم كم بقي منهم حياً وكم زاد عددهم خلال عشر سنوات لاحقات.
ومن بين أحدث الفواجع التي تلاحقنا صباح مساء ما وصفها السوريون بالجريمة الإرهابية الكبرى التي وقعت في الكلية الحربية في حمص أثناء حفل تخريج الضباط يوم الخميس الماضي 5/10/2023 والتي راح ضحيتها عشرات من شباب سورية، وغالبيتهم من العلويين الذين بات كثير منهم ضحية عناد النظام وإصراره على الحل العسكري للقضية السورية.
هؤلاء هم أبناء الطائفة الثانية التي تعرضت لخسائر في الأرواح، وأعني الطائفة العلوية التي تم زجّها في مواجهة الثوار، وتم استخدامها بقوة في التصدي لجماهير الشعب السوري المطالبة بالتغيير.
وربما ينتقدني بعض الإخوة لكوني أتحدث عن صراع بين سنة وعلويين، وأنا أكثرهم كرهاً ورفضاً لهذا التقسيم الطائفي للسوريين، ولكن الشمس لا تُحجب بغربال، للأسف تلك حقيقة لايمكن تجاهلها، وهذا الاصطفاف ليس شمولياً، فكثير ممن حاربوا مع النظام ودافعوا عنه كان من أهل السنة، وثمة علويون وسواهم من طوائف أخرى عارضوا النظام ورفضوا تجييش الطائفة العلوية وزجها في واجهة الصراع، وتحميلها مسؤولية الدمار الذي حدث، وأعتقد أن غالبية العلويين كانت مُجبرة على الوقوف في جبهة النظام، لأن أكثر أبنائها عسكريون ورجال أمن، ارتبطت حياتهم ومصالحهم بالنظام الذي احتمى بهم فاحتموا به، وأقنعهم أنهم هم المستهدفون، وأن من يطالبون بإصلاح النظام هم حاقدون على العلويين ويريدون إقصاءهم عن الحكم و إنهاء مصالحهم وامتيازاتهم وسيادتهم على المجتمع السوري.
وعلى صعيد شخصي من خلال تجربتي في وظائف الدولة التي شغلتها منذ عام 1973 حين أديت خدمتي العسكرية أتيح لي أن أكون شديد القرب من الأشقاء العلويين من شعراء وأدباء ومثقفين ومفكرين وصحفيين وفنانين وبعض العسكريين، وكان من المفارقة أن موضوع الطائفة لم يكن حاضراً في حياتنا المشتركة، كنا مسلمين ومسيحيين ومن كل الطوائف والأعراق والتوجهات، نفخر بالعيش المشترك الآمن وبالتعددية التي حسبناها ثراء ومصدر قوة، ونعتبر المواطنة السورية هي الجامعة الوحيدة بيننا، فأما الأديان والمذاهب فهي حياة ذات خصوصية للأفراد، ولم يكن ثمة أي توتر بين أهل السنة والعلويين، ففضلاً عن الصداقات الحميمة، فقد كثر التزاوج بين الطائفتين ولاتكاد توجد عائلة سنية إلا وفيها زوجات من أصول علوية، وحتى الشيعة كانوا منخرطين في الحياة الاجتماعية العامة ولاتوجد مشكلات ذات شأن.
لقد استيقظ الشعور الطائفي حين اعتمد النظام على الطائفة العلوية تحديداً في وظائف الجيش والقوى الأمنية، وحين شعر بعض العسكريين العلويين بالتميز والتفوق الاجتماعي، وبدأت تظهر عندهم أعراض الشعور بالاستبداد واستعراض القوة، ولاسيما بعد الفتنة الكبرى في “حماة” مطلع الثمانينات، ومع أن أهل السنة عامة استنكروا الجريمة المروعة في مدرسة المدفعية في حلب عام 1979 كما أن منهم من وقف إلى جانب النظام أثناء أحداث حماة مطلع الثمانينات، وخرج الملايين منهم في مسيرات التأييد للنظام راغبين او كارهين أو مسايرين أو مسالمين أو مضطرين، إلا أن ذلك لم يشفع لهم عند أجهزة الأمن العلوية في قياداتها بخاصة، فقد تعمقت مشاعر عداء حذر من المسلمين السنة، وصلت إلى مواقف مضحكة، أذكر منها للطرافة، أن صديقاً لي من أفضل الكتاب والنقاد السوريين أوقفه حاجز أمني، على مدخل حلب وهو يقود سيارته، وكان مغرماً بصوت عبد الباسط عبد الصمد وتصدح به المسجلة في سيارته، فوقف للحاجز ونسي أن يغلق صوت المسجلة فالتفّ حوله العساكر وأنزلوه بعنف وقال زعيمهم (عم تتحدانا ولاك ؟) ولم يفهم صديقي مكمن التحدي، فجرّوه إلى خيمة واتهموه بأنه من الإخوان المسلمين لأنه يسمع القرآن في سيارته، وبقي في الحجز حتى انتهى التحقيق، وصرفوه حين عرفوا أنه مسيحي.
طبعاً هذه حالة فردية وطارئة، لكنها تكشف تعبئة خاطئة لبعض العسكريين وفهماً سيئاً للدين، ومن الطرائف أن آباء بعض المعتقلين كانوا يذهبون صاغرين لمراجعة أجهزة الأمن ليدافعوا عن أبنائهم ويبرؤوهم مما اتهموا به، فيقسم الأب أمام الضابط الأمني بأن ابنه لم يصلّ يوماً ولم يصم، وأنه مدمن على الخمر والزنا والقمار، وأنه مواطن صالح
لايعرف شيئاً عن الإسلام !!
كان استيقاظ الشعور بالطائفية بداية سيئة للانهيارات الاجتماعية اللاحقة، وبات مؤرقاً لحكماء ومثقفي العلويين بخاصة، الذين انحاز بعضهم لأحزاب اليسار المعارضة، وتعرضوا للاعتقال وكان عقابهم مضاعفاً.
وقد ازداد شعور أجهزة الأمن بالقوة حين أطلقت لهم الصلاحيات في القتل، ولاسيما حين صدر قانون يعفيهم من المساءلة عن أية جرائم يرتكبونها أثناء أداء مهامهم.
وللأمانة التاريخية وحسب الظاهر، فقد كان بشار الأسد كما ظهر من بداية حكمه يعلن أنه يريد تخفيف التسلط الأمني، والتسلط البعثي، و قد سمح بإقامة المنتديات وإطلاق بعض الحريات السياسية فيما عرف بربيع دمشق، مما جعل أجهزة الأمن تخشى أن يتزعزع موقعها وأن تفقد سطوة حضورها، فقاموا بتفجيرات ومشاغبات كثيرة كي يشعروا الرئيس بأن البلاد في خطر، وأنهم هم حماة النظام، وهم من يحملون عرشه، فإذا ضعفت مكانتهم سيسقط (ولدي الكثير من الأدلة على ذلك، وأشهد أن أجهزة الأمن المستبدة خاصمت الحكومة التي بدأت تأخذ دورها فتمت مقاومتها باعتقال غير مبرر لموظفيها، وباتت تتدخل في شؤون الموظفين حتى في مراقبة الدوام).
المهم أن “الرئيس” لم يستطع مواجهة قادة أجهزة الأمن، بل خضع لهم ومنحهم المزيد من الثقة والصلاحيات، وتم اعتقال رموز ربيع دمشق واشتهر منهم العشرة الأفاضل كما تمت تسميتهم، وتضخّم الاستبداد، ووصلت درجة الغليان الشعبي المخبوء إلى جاهزية الاستجابة السريعة للربيع العربي.
ومع “الانهيار” الذي يواكب “الانتصار” كما يفاخر النظام، بدأ العلويون بشكل خاص يدركون حجم الخسائر التي أصابتهم، لقد فقدوا خيرة شبانهم في حرب مجنونة حملتهم وزر دمار سورية ومعاداة الملايين من السوريين، ومسؤولية تهجيرهم وتشردهم واعتقال أبنائهم، فبدأ التململ داخل الطائفة، وظهرت أصوات بعضها عالٍ وبعضها خافت تتساءل (ما مستقبلنا في سورية التي دمرناها؟). وجاءت تظاهرات السويداء لتفضح أكذوبة كون النظام حامي الأقليات، وأكذوبة أن النظام يواجه إرهابيين “سنّة”، وستكون جريمته فاقعة ومدانة دولياً بشكل ساخط جداً إن أسقط على الدروز البراميل أو قصفهم بالكيماوي، كما كان يفعل مع أهل السنة الذين تعاديهم دوائر في الغرب من قرون وتريد إبعادهم عن الحكم.
وهناك من يشكّون بوحدة أجهزة النظام وتماسكها، فهي مثل المعارضة تعرضت لتشرذم واختراقات وصراعات داخلية، ولاسيما بوجود قوى فاعلة حولها مثل روسيا وإيران وحزب الله وميليشيات الحشود الطائفية المختلفة الولاءات أيضاً، وهذا ما يدعو كثيرين لاتهام بعض أجهزة النظام بارتكاب جريمة الكلية الحربية في حمص، حيث لا يمكن أن تمر الطائرات المسيّرات من شمال أو غرب سورية بمسافة أكثر من مائة كيلومتر نهاراً دون أن يلحظها أحد، مع وجود العديد من مواقع الرصد وقواعد الدفاع الجوية حول حمص، كما أن خروج وزير الدفاع ورفاقه قبل عشرين دقيقة من الحادثة أثار مزيداً من الشكوك، ولست في موقع التحقيق أو الاتهام، فما حدث مدانٌ كائناً من كان فاعله، ومدان كذلك هجوم النظام وحلفائه على أرياف إدلب واتهامها ، وقد تصاعد ارتكاب الجرائم بقصف وقتل المدنيين الأبرياء في إدلب انتقاماً عشوائياً .
ربما يكون الشك مبرراً بكون هدف الجريمة إشعار العلويين والمؤيدين عامة بأنهم يعيشون في خطر، ولا بدّ لهم من أن يزدادوا التحاماً بالنظام فهو وحده ضمان أمنهم المستقبلي، وعليهم التوقف عن التململ والضيق والصراخ، وعليهم أيضاً التحلي بالمزيد من الصبر مهما كانت ظروفهم الميشية قاسية، فإن تخلوا عن النظام سيتخلى عنهم هو وحلفاؤه، وسيواجهون أخطاراً مرعبة مريعة.
وهناك من يتهم إيران بارتكاب الجريمة، لأن حاضنتها “المتوهّمة” الوحيدة في سورية هي العلويون رغم أنهم يفضلون روسيا، فهم يرفضون التشيّع الإيراني، ويضيقون بالتوسع الكبير لإيران بعد أن صار الفرس سادة أقوياء يحكمون العلويين.
تبدو الجريمة للتخويف والترهيب، وهي تخيفنا جميعاً، ومن قُتلوا هم أبناؤنا الشباب السوريون مهما تكن انتماءاتهم المذهبية، وأحسب أن دافعهم للانتساب إلى الجيش الذي يحارب شعبه هو أولاً لتأمين مصدر عمل و رزق وعيش، في زمن العطالة والبطالة والانهيارات والضياع.
نعزي أهلنا السوريين من كل شرائحهم وطوائفهم ، وندعو الجميع أن يكتفوا بكونهم سوريين ، وأما الأديان والمذاهب والأعراق فهي سمة الاختلاف بين البشر وحسب أبناء شعبنا أنهم سوريون.