حفل المشهد السوري بعد زلزال السادس من شباط الماضي بحراك سياسي واعلامي غير مشهود منذ العام 2011 غداة انطلاق الثورة السورية، اذ ما ان بدأت التداعيات المدمرة للزلزال، حتى انهالت على دمشق برقيات التضامن والتعزية مصحوبة بزيارات لمسؤولين عرب كزيارة وزير الخارجية الأردني، اعقبها زيارة نظيريه المصري والاماراتي إضافة الى الزيارة التي قام بها الوفد البرلماني العربي الذي التقى برأس النظام يوم 26 شباط المنصرم، فضلاً عن الاتصالات الهاتفية المباشرة التي بادر بها كل من ملك الأردن ورؤساء مصر والجزائر وموريتانيا.
لا شك ان جميع اشكال هذا الحراك قد وجدت في التداعيات الكارثية للزلزال مدخلاً مناسباً بالمبادرة لإعادة العلاقة مع نظام دمشق، علماً أن العديد من تلك الأطراف هي بالأصل تحتفظ بعلاقاتها مع الأسد ولم تنقطع في يوم، وكان من الممكن ألا يحمل هذا الحراك الأخير أكثر مما يحتمل لولا مؤشرات تحول في سياسة دول عربية عرفت بمواقفها المبدئية والحازمة تجاه النظام، وخاصة المملكة العربية السعودية التي ألمح وزير خارجيتها يوم الثاني والعشرين من شهر شباط اثناء حضوره مؤتمراً للمناخ في ميونخ الى “وجود توافق عربي على عدم استمرار الملف السوري كما هو عليه”.
وبعيداً عما ينطوي عليه تصريح الوزير السعودي من تأويلات، فانه يمكن أن يعكس رغبة عربية جادة بالتعاطي الجمعي مع القضية السورية، وهذه، من حيث المبدأ، يمكن النظر اليها بإيجابية، باعتبارها تعكس اهتماماً عربياً بمصير الشعب السوري الذي استحكمت به اشكال الموت جميعها، كما تظهر إيجابية هذا المسعى بسبب غياب الدور العربي في مشهد القضية السورية طيلة السنوات السابقة، وكذلك لحاجة السوريين الى وقوف أبناء جلدتهم معهم لمساعدتهم في إيقاف المقتلة القائمة في سوريا منذ 12 سنة.
الا أن تلهّف السوريين الى حل سياسي يفضي الى انهاء مأساتهم، لا يحول دون تكاثف غيوم الريبة والخوف مما يجري بين دمشق وبعض العواصم العربية، وخصوصاً تلك التي تهدف الى تعويم نظام الأسد وتعتبره منتصراً على شعبه. ولعل المؤسف ان مثل تلك المساعي تتلاقى وتتشابك مع الدعوات التي يسعى الى ترسيخها المحتل الروسي بتبعية اطراف أخرى من ضمنها المبعوث الدولي غير بيدرسن وذلك ضمن مشروع اطلق عليه (خطوة مقابل خطوة).
اذاً فما الحل الذي يريده السوريون ويلبي الحد الأدنى من تطلعاتهم؟
منذ وقت مبكر اوجدت القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية (جنيف1، 2254، 2118) آفاقاً واضحة لحل سياسي في سوريا وذلك من خلال انشاء هيئة حكم انتقالي مشتركة بين النظام والمعارضة، تليها مرحلة يتم فيها كتابة دستور جديد للبلاد ومن ثم الدخول في انتخابات عامة تحت رعاية اممية، الا ان جميع هذه القرارات لم تحظَ بتفاعل جديّ من جانب النظام، بل مارس وما يزال حيالها كل اشكال التعطيل والرفض.
وفي موازاة هذا الرفض، استمر باتباع منهجه الأمني القائم على المزيد من العنف الذي وصل مرحلة التوحّش، الامر الذي جعل الصراع في سوريا يخرج من اطاره السياسي الى اطار وجودي من خلال استهداف حياة المواطنين بكل وسائل الدمار بما فيها المحرمة دوليا، فكانت حصيلة هذا التوحش هجرة 13 مليون سوري داخل سوريا وخارجها، واستشهاد ما يقارب المليون شخص ووجود 135 ألف معتقلة ومعتقل في زنازينه، حسب ما وثقته “الشبكة السورية لحقوق الانسان”، عدا عن الذين تمت تصفيتهم في السجون الذي وثقت قتلهم صور وشهادات “قيصر”.
لعل هذه الحصيلة الرهيبة من الجرائم بحق السوريين قد جعلت رفضهم لأي تقارب أو أي مصالحة مع الأسد وسيلة نضالية من اجل الحفاظ على البقاء، باعتبار ان الجرائم التي ارتكبت بحقهم ليست احداثاً مضت ويمكن نسيانها، بل وقائع لا تزال حاضرة وهي قابلة للتكرار طالما ان الجاني ما يزال متمسكاً بمنهجه الدموي الذي لا يمتلك سواه، وتكفي الإشارة في هذا السياق الى القصف الذي قامت به طائرات الأسد يوم 26 شباط لمحيط بلدات معرتمصرين وكفريا والفوعة في ريف ادلب، وذلك تزامناً مع وجود الوفد البرلماني العربي في دمشق وأيضا تزامناً مع المأساة التي مُنِيَ بها السوريون جراء الزلزال. وفي ضوء ذلك لا تستقيم الدعوة الى حلول عبر المصالحة بل ينبغي ان تكون عبر مقاضاة المجرم، ليس انصافاً للضحايا من السورين فحسب بل انصافاً لمبدا العدالة والقيم الإنسانية أيضاً.
وفي هذا السياق يمكن طرح اهم الأولويات التي يمكن ان تجسد مدخلاً مناسباً للحل في سوريا:
أولاً: الافراج التام عن جميع المعتقلين السياسيين والكشف عن مصير المخطوفين والمغيبين قسرياً في سجون النظام ولدى جميع الأطراف، باعتباره مبدأ انسانياً فوق تفاوضي.
ثانياً: إن تأمين دعوة المهجرين والنازحين الى بيوتهم وبلداتهم دون أي عائق أمنى يشكل الخطوة الأساسية لحالة استقرار مجتمعي، وهذا لا يمكن ان يحصل دون توفر البيئة الامنة التي تعني رحيل الأسد وطغمته الحاكمة باعتبار راس النظام بات متماهياً مع منظومته الأمنية التي لا يمكن ان تزول الا بزواله.
ثالثاً: زوال الأسد وزمرته الحاكمة مع الإبقاء على مؤسسات الدولة قد يتيح المجال للعودة من جديد لتطبيق القرارات الأممية دون عوائق، وحين ذاك يمكن الحديث عن كتابة دستور جديد للبلاد وفق الأصول الدستورية المتعارف عليها.
رابعاً: سحب كافة الميليشيات والقوات الأجنبية من الأراضي السورية ودخول قوات اممية ريثما يعاد تشكيل الجيش والمؤسسات الأمنية في البلاد على أسس وطنية.
ربما تكون هذه الإجراءات أولية لكنها بالنسبة للسوريين تعتبر محددات أساسية لاي مبادرة حل تهدف إلى أن تضع حداً للمقتلة السورية وتمهّد لعودة السوريين الى بناء دولتهم السورية.
ولإنضاج هذا الحل يجب الدعوة الى مؤتمر وطني سوري عام يفضي الى تشكيل كيان سياسي يمثل كافة السوريين بحق ولا يُختزل بقوى الثورة والمعارضة التقليدية او المهيمنة على المشهد، بل يتسع لكل الأصوات السورية التي تريد انقاذ سوريا ومنع المشاريع التي أدت الى احتلالها واستباحتها، وإيقاف نزيف الحرب والفساد والجوع الذي طاول كل السوريين على امتداد الجغرافيا السورية، وانهاء جميع سلطات الامر الواقع وإعادة بناء الدولة السورية على أسس وطنية مدنية وديمقراطية، يحترم تطلعاتهم وارادتهم وتناط به قيادة البلاد سياسياً في المرحلة الانتقالية.
بقلم: العقيد عبد الجبار العكيدي / المصدر: المدن