صار مفهوما ان سوريا تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات وتكسير العظام بين إيران وإسرائيل، وأن الجولات الإيرانية (الناجحة) التي تمكنت خلالها من الوصول الى مناطق تهدد فيها إسرائيل فعليا، ترتد اليوم عليها، وأن اللعبة الإيرانية والإسرائيلية على السواء تستهلك سوريا، وتحيلها الى جغرافيا بلا هيبة ولا سيادة، يتقاتل فيها المتخاصمون، دون اعتبار لوجود الدولة، التي غابت او تحللت بالفعل.
لم يستأذن الإيرانيون من الشعب السوري، حينما قرروا تحويل سوريا الى ساحة متقدمة للمحور الذي صنعوه، وهم بالتأكيد لم يفعلوا ذلك مع رئيس النظام المرتهن لهم، فسرقوا سوريا قبل ان يجعلوها خط دفاع متقدم عنهم في لعبة النفوذ الإقليمي مع إسرائيل، واصبحوا يتعاملون مع هذه اللعبة على أنها رهان أساسي للأطماع الإقليمية، ولحملات استنزاف مع إسرائيل، ستظل محتملة ما دام أنها تجري خارج الأرض الإيرانية، حتى لو كان من ضحاياها ضباط إيرانيون يمكن استبدالهم، ناهيك طبعا عن افراد الميليشيات، وهؤلاء أصلا ضمن العناصر (الاستهلاكية) للمشروع الإيراني.
يمكن بسهولة ملاحظة ان الهجمات الإسرائيلية تصاعدت بشكل واضح منذ السابع من أكتوبر الماضي وهو تاريخ عملية حماس داخل إسرائيل وما تلاها من الحرب على غزة، وقد شهدت هذه الفترة حتى هذا اليوم (22/2/2024) ما يقارب 56 هجوما، 15 منها جرت منذ مطلع العام الحالي، معظمها كانت على شكل غارات جوية، واستهدفت بشكل خاص الميليشيات الإيرانية وضباط للحرس الثوري، وأحيانا مواقع للنظام، وجميعها كانت تحقق أهدافها، وتصيبها بدقة بالغة، كما جرى في الهحمات الاخيرة في حي كفر سوسة بدمشق ومنطقة الديماس، من دون أن يجري ولا مرة واحدة الرد عليها أو منعها من تحقيق هدفها.
هذا العدد هو أكبر مما شنته إسرائيل طوال العام 2023، وضعف ما قامت به في عام 2022 بكامله، بمعنى أنه تحول من عمليات متقطعة ومحدودة، الى هجمات نمطية قوية وفعالة، وأيضا دقيقة جدا بطريقة تثير الشبهات في حدود ما تعرفه إسرائيل من معلومات عن التحركات الإيرانية في سوريا، والمواقع التي يقطنها ضباط الحرس الثوري، ومكانهم المحدد لحظة الاستهداف، وكل ذلك هو بطبيعة الحال يفترض أن يكون من المعلومات السرية، وغير المعروفة الا لعدد محدود من الأشخاص.
في حقيقة الامر لا يهمنا كثيرا عدد أفراد الميليشيات أو ضباط الحرس الثوري الإيرانيين الذي يقتلون في الهجمات الإسرائيلية، فهم جميعا عند طهران مجرد قطع استهلاكية من الممكن التضحية بهم، مقابل تثبيت الحضور المتقدم في سوريا، ومن غير الحاجة إلى التصعيد مع إسرائيل أو حتى التعهد بالانتقام للقتلى في هذه المرحلة على الأقل، والالتزام بعدم الانسياق لحرب شاملة تريدها إسرائيل وترفضها واشنطن وطهران. هذا كله يجعل عمليات الاغتيال للشخصيات الإيرانية العسكرية داخل سوريا، مجرد حدث سيمر دون تداعيات، لكن المهم هنا، هو التساؤل عن الكيفية التي تصل فيها إسرائيل الى المعلومات الدقيقة بشأن هؤلاء الضباط وميليشياتهم.
في الواقع ان قمة الهرم السياسي للنظام في سوريا هو منذ سنوات في وضع اشبه بالجبنة السويسرية كثيرة الثقوب، لكنها ما زالت توحي أنها متماسكة ككتلة. كل ثقب من هذه الثقوب هو اختراق أمني تقوم به أطراف مختلفة، تتجاوز في عددها الدول الأجنبية التي تسيطر فعليا على الأرض في سوريا، وأبرزها إيران، لكن المهم أن الثقب الواسع الذي يوصل المعلومات لإسرائيل حول غرف نوم القياديين الإيرانيين، لا يمكن أن يضم مجرد جواسيس عاديين، نظرا لخطورة الأهداف والسرية التي تحاط بها تحركاتهم، ولذا فالجواسيس الذين يقدمون المعلومات لإسرائيل، هم منطقيا من داخل النواة الصلبة للنظام وقوى الأمن فيها، من الذين يقومون بالإشراف على أمن وراحة القياديين الإيرانيين.
لكن تكرار الهجمات الإسرائيلية، يزيد على هذه الفرضية، حقيقة أن الاعتقاد بوجود جواسيس من الحلقة القريبة من القيادات الإيرانية، يعني تبديلها باستمرار واختيار الأكثر ثقة منهم، وهو ما يتعارض مع حقيقة استمرار الهجمات الإسرائيلية، رغم التبديل المتوقع للعناصر الأمنية، لذلك ذهب الترجيح إلى أن الجواسيس او ربما الجاسوس قد لا يكون مجرد ضباط عاديين من الأمن السوري، بل هم قيادات أمنية رفيعة، لن يتغيروا كل يوم، وقد كان يعتقد إلى حد كبير أن رئيس مكتب الأمن الوطني للنظام ويده الباطشة علي مملوك هو الجاسوس المفترض، لذلك سرت الأخبار عن إقالته من منصبه وربما مقتله قبل أسابيع، بوصفه حدثا ضمن سياق التصفيات الإيرانية الإسرائيلية، لكن الهجمات الدقيقة ضد الأهداف الإيرانية في سوريا استمرت، مما أعاد الحسابات والتكهنات حول هوية الجاسوس الذي ما زال يقدم المعلومات حول إيران إلى إسرائيل، ويبدو أنه سيستمر في القيام بهذه الخدمة، سيما إن كان أهم من مجرد مسؤول أمني يمكن تغييره، ومن يدري فقد يكون مسؤولا سياسياً رفيعاً جداً، وذلك لن يكون مستبعدا، ما دام يعتقد أن إسرائيل هي من تضمن له البقاء والشرعية.
صبا مدور – المدن