ماجد كيالي-موقع درج
مكمن الإرباك يظهر في جهد نصرالله الحثيث للمزاوجة في خطاباته بين مضمونين، الأول، الذي يواصل فيه خط التعبئة، والتأكيد أن محور المقاومة يحقق نجاحات كبيرة، وأن العدو يخفق ويهتز من كل النواحي أمنياً، واجتماعياً، واقتصادياً، والثاني، هو التبريري، الذي يحاول فيه التغطية على محدودية القدرة على مواجهة إسرائيل، بتأكيده أن هدف “حزب الله” وكل محور المقاومة، هو إسناد المقاومة في غزة، ووقف العدوان الإسرائيلي على القطاع.
تبطن خطابات الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، التي ألقاها بعيد اغتيال إسرائيل فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت؛ وهو القيادي العسكري الأبرز في “حزب الله”، والتي تزامنت مع قيام إسرائيل بعملية اغتيال أخرى في العاصمة الإيرانية، استهدفت إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ “حماس”، نوعاً من الإرباك الواضح في التعاطي مع هاتين الحادثتين.
هذان الاغتيالان أتيا في مناخات حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد فلسطينيي غزة تحديداً، منذ 11 شهراً تقريباً، بدعم واضح من الولايات المتحدة الأميركية سياسياً وعسكرياً ومالياً.
مكمن الإرباك يظهر في جهد نصرالله الحثيث للمزاوجة في خطاباته بين مضمونين، الأول، الذي يواصل فيه خط التعبئة، والتأكيد أن محور المقاومة يحقق نجاحات كبيرة، وأن العدو يخفق ويهتز من كل النواحي أمنياً، واجتماعياً، واقتصادياً.
والثاني، هو التبريري، الذي يحاول فيه التغطية على محدودية القدرة على مواجهة إسرائيل، بتأكيده أن هدف “حزب الله” وكل محور المقاومة، هو إسناد المقاومة في غزة، ووقف العدوان الإسرائيلي على القطاع.
مشكلة نصرالله أنه لا يعترف بالحقيقة، ففي الجانب الأول، شتان ما بين خسائر إسرائيل التي يمكنها تعويضها من كل النواحي، مع وجود إجماع فيها على خوض حرب طويلة، وتحمّل خسائر بشرية واقتصادية (مع الدعم الأميركي اللامحدود) بل وتوسيع الحرب إلى لبنان وحتى إلى إيران، كأن إسرائيل هي التي تترجم شعار “وحدة الساحات”، وهذا كله نتاج إدراك لدى الإسرائيليين، يعززه اليمين القومي والديني، أنهم إزاء حرب وجودية، وبين إغفال نصرالله الخسائر التي يتكبدها الفلسطينيون، الذين يتعرضون إلى حرب إبادة جماعية غير مسبوقة، من دون أن يستطيع أحد التخفيف منها، لا محور المقاومة ولا غيره، وضمن ذلك خسائر لبنان، علماً أن إسرائيل قتلت أكثر من 500 من اللبنانيين (منذ يوم الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023) ضمنهم خيرة كوادر “حزب الله”، مقابل 44 إسرائيلياً فقط، سقطوا نتيجة قذائف “حزب الله” طوال الأشهر الماضية، بمعنى أن الفجوة هائلة جداً بين الطرفين على الصعد كافة.
في مضمون الجانب الثاني، لخطابات نصر الله الثلاثة، نرى أن الفارق جلي، فبينما كان طوال عقدين يتحدث في خطاباته عن إسرائيل باعتبارها “أوهى من خيط العنكبوت”، ويبالغ بقدرات المقاومة التي تستطيع أن تزلزل الأرض تحت أقدام إسرائيل، وأنها يمكن أن تقوض إسرائيل في بضع دقائق أو أيام (وهذا خطاب قادة إيران وباقي أطراف محور المقاومة) إذا به اليوم يتحدث بكل هدوء عن “التصرف بروية وبتأنّ وأيضاً بشجاعة وليس بانفعال… يواش يواش، على مهل”، وقد اعتبر أن جعل إسرائيل تنتظر والوقوف “على رجل ونصف… هو جزء من العقاب، هو جزء من الرد، هو جزء من المعركة، لأن المعركة هي معركة نفسية ومعنوية وأعصاب وأدمغة وسلاح ودماء”، بحيث تبخرت كل الادعاءات السابقة.
الناحية الثانية، اللافتة في هذا الجانب، أن “حزب الله” الذي كان يتوعد بإنهاء إسرائيل، بات مطلبه وقف العدوان الإسرائيلي على غزة فقط، بتأكيده أن “محو الكيان من الوجود ليس هدفنا ولكن هدفنا منعه من الانتصار” و”الهدف من إسناد حزب الله لغزة هو وقف الحرب” وأن المقاومة هي “طويلة الأمد وبالتدريج”.
يستنتج من ذلك أن النظام الإيراني وتابعه حزب الله، إنما كان يصدر الشعارات والأوهام للآخرين فقط، في حين يشتغل هو وفق معادلة أخرى، تقوم على “الصبر الاستراتيجي”، والنأي بالنفس عن أي تورط في معركة مع إسرائيل، وتالياً مع الولايات المتحدة، أي اقصى الحكمة والصبر الاستراتيجي للنظام الإيراني وذراعه الأثير “حزب الله”، مقابل أقصى الادعاءات والأوهام للأطراف الأخرى، المنخرطة في ما يسمى “محور المقاومة والممانعة”. ولا شك في أن غزة عرفت أو كشفت ذلك بدمائها وبالدمار المتحقق فيها، الذي لم تخفف منه أية جبهة إسناد لا من لبنان ولا من أي مكان آخر، والتي كانت كلها تحت السقف.
ما تقدم يفسر خطاب نصرالله الأخير (25 آب/ أغسطس) الذي بدا فيه وكأنه أوفى بوعده وقام بما عليه، بعملية قصف لم تؤثر في إسرائيل لا بشرياً ولا اقتصادياً ولا عسكرياً، بالقياس على الوعد، وكانت مجرد ضربة أخرى محسوبة ومحدودة، وتستهدف فقط ترضية جمهور “حزب الله” وجمهور “المقاومة والممانعة”.
وتفسير ذلك أن النظام الإيراني لن يغامر في توريط نفسه في حرب تطلبها إسرائيل أصلاً، وهو لن يهدد نفوذه الإقليمي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، لا من أجل فلسطين ولا القدس ولا غزة، في حرب تستعد لها الولايات المتحدة أيضاً مع إسرائيل، وهو لا يريد حتى لـ”حزب الله” التورط في ذلك، باعتباره بمثابة رصيد لأمنه القومي، وأكبر دليل على ذلك أن غزة دُمرت عن بكرة أبيها و”حزب الله” لم يقم بما كان يدعيه، وهو زلزلة إسرائيل.
والفكرة أن إيران تعرف حدود قوتها، وهي تتصرف هنا بعقلانية، بناء على إدراكاتها لقوتها ولقوة إسرائيل والولايات المتحدة، على رغم أن ادعاءاتها وتصديرها الأوهام لغيرها لا حدود لهما، بل إن ذلك الأمر جزء مهم من محاولتها تعظيم ورقتها كقوة إقليمية في المنطقة.
في المحصلة، بدا نصرالله في خطابه الأول غاضباً، لذا صدرت منه عبارات الوعد والوعيد، مؤكداً “ردنا الآتي حتماً… رد حقيقي وليس شكلياً”، بل إنه ذهب بعيداً في توريط إيران، بقوله: “هم يتحدثون عن المس بسيادتهم، وثانياً المس بأمنهم القومي، وثالثاً المس بهيبتهم، ورابعاً وهذا يجب أن يفهمه الإسرائيلي الذي لا يزال لا يفهم أنه تم المس بشرفهم”.
أما في الخطاب الثاني فبدا أكثر عقلانية وهدوءاً، إذ أخرج إيران من دائرة الانخراط بالفعل، بقوله: “إيران وسوريا ليس مطلوباً منهما المشاركة في الرد، إذ يكفي الإسناد وتقديم الدعم”.
في حين تراجع في خطابه الثالث عن التزامه برد قوي على اغتيال شكر، مكتفياً بما قام به حزبه يوم 25 آب/ أغسطس، واستمرار إسناد غزة؛ أي أراح إسرائيل التي بات بإمكانها أن تقف على رجليها الاثنتين، فيما حرب الإبادة تتواصل على أشدها ضد فلسطينيي غزة.