إبراهيم الجبين
لم يتوقّف النقاش حول إشكالية الدور الذي لعبته جماعة الإخوان المسلمين في المشهد السوري، لحظة واحدة، منذ تأسيسها وتولي مصطفى السباعي منصب المراقب العام الأول لها عام 1945 وحتى وقتنا الحالي. ويعيد لهذا الحديث أهميته من جديد، تناولُ برنامج “منتدى دمشق” على تلفزيون سوريا، لتجربة الإخوان المسلمين السوريين، وتحليل مساراتهم، على أكثر من حلقة عُرضت في الأيام الماضية.
وكثيراً ما اتهم “غيرُ الإخوان” من السوريين، الجماعةَ بأنها تسعى إلى أسلمة سوريا، وترفض مدنية الدولة ولا تعترف بالديموقراطية، إلى آخر سلسلة التصوّرات التي شكلها هؤلاء عن الجماعة من خلال طروحاتها حيناً وعبر سلوكها السياسي في الكثير من الأحيان.
وقصة “غير الإخوان” هذه، كوصف لمن لا ينتمي إلى الجماعة، قصة يتحمّل مسؤوليتها الإخوان أنفسهم، وقد يكون مردّ ذلك إلى التكوين الذي وضع هندسته المؤسس حسن البنا منذ البداية، حين صنع من الأمّة الإسلامية (السنّية) حزباً سياسياً له تنظيم وهياكل وإدارة، فبات كل من هو خارج التنظيم يعتبر بشكل أو بآخر نوعاً من “الأغيار” أو كما يسمّى في الثقافة العبرية «غوييم».
خلق هذا التنصيف الذي فرضته طبيعة الجماعة، أزمةً ثنائيةَ القُطب، يغذّيها ويشحنها من هو داخل الجماعة من جهة، حين ينظر إلى الذي يقبع خارجها على أنه، بحكم انحلاله من التنظيم، منافسٌ ومزاحمٌ على الأهداف المعلَنة للجماعة – التنظيم – الحزب. ومن جهة ثانية، كان بقية السوريين يشعرون أن الجماعة إنما اختزلت التمثيل الإسلامي السنّي السوري وقلصت حجمه من كونه مظلة ثقافية وهوية واسعة، إلى مجرّد “حزب” يخضع لما تقتضيه بنيته ونظامه الداخلي.
قيّدت الجماعة حركتها، بادعائها تمثيل السوريين المسلمين السنة جميعاً، فالبراغماتية والمرونة التي يفرضها العمل السياسي، قد لا تتوافق مع مبدئية عموم المسلمين السنة، حيال مواقف سياسية أو أحداث مختلفة. وكانت كلما حاولت الفكاك من تلك القيود، اصطدمت بتأويل المسلمين السنة لسلوكها السياسي، فعادت وتحوّلت مرة ثانية إلى مولِّدٍ لحركاتٍ إسلاميةٍ بديلة، تفرّخ فروعاً تختلف في الشكل والتنظيم مع الجماعة، وتتفق معها في الإيديولوجيا والطموحات، وليس مستغرباً أن يكون مؤسسو التنظيمات الجهادية والجماعات المتطرفة جميعهم أعضاء أو أعضاء سابقين في جماعة الإخوان المسلمين، أو على الأقل نشؤوا في ظلالها.
المعادلة الرياضية الإخوانية غير قابلة للتحقق في حقل مثل الحقل السوري، فسوريا بالفعل مختلفة عن مهد الجماعة -مصر، مع أن الأخيرة رفضت مبكّراً “أخونة” المسلمين السنّة قبل أن يرفضها انقلاب عبد الفتاح السيسي العسكري على الحياة الديموقراطية
أول ضربة براغماتية، وجّهتها جماعة الإخوان، لم تكن نحو الآخر، بل صوب الذات، أي الإسلام السنّي نفسه، حين حوّلته إلى حزب، وهبطت به من مقام “الأمّة” إلى مقام “الكُتلة”. ولهذا أخذ النمط الذي طرحت الجماعة مشروعها السياسي من خلاله، يؤدي إلى توليد “جماعات مقابلة” من غير المسلمين السنة، وبالطبع من غير المسلمين، لتعود الجماعة مجدّداً للعب دورٍ في تكريس الأقلوية، علمت أم لم تعلم. لكن هذه الآلية لن تمضي بسهولة، فقد لا تكون بقية المكوّنات السورية جاهزة لتقديم النموذج السياسي ذاته، والقائم على مرتكزات دينية كالتي وضعها البنا، كل بحسب دينه ومذهبه وعقيدته وتموضعه التاريخي.
في مكان مثل الساحل السوري، على سبيل المثال، حيث العلويون، لن يكون بالإمكان استنساخ القالب الإخواني، لا سيما بعد أن أفرغ الأسد الأب ومن بعده ابنه، الحياة العامة للطائفة العلوية من رؤوسها وقياداتها العلمية والروحية وحتى الاجتماعية، ولأن طبيعة التكوين الفكري الخاص بالطائفة العلوية لا تسمح بظهور هذه الآليات في قيادتها، ولعلّ هذا ما ضلّل المفكّر الراحل صادق جلال العظم، حين طرح مفهومه عن “العلوية السياسية”، التي لن تكون إلا استجابة منطقية لمشروع الإخوان، ستولّد نماذج من نوع “إخوان علويين” و”إخوان دروز” و”إخوان إسماعيليين” وهكذا إلى نهاية التكوين السوري المتعدّد. حتى المسيحيون السوريون أخذوا يبحثون لأنفسهم عن أطر مشابهة، وعن قيادات روحية كنسية تلعب دور “المرشد”، وحين لم يجدوا برزت قيادات مدنية لا دينية لتمثّل المسيحيين. وهكذا صار بوسعك أن تبحث في بقية الخارطة الثقافية السورية، عن ذلك الأثر البالغ الذي تركته “الهيكلية الإمامية” في صناعة التمثيل، ما دام باب الحزبية الدينية مفتوحاً منذ تشكيل جماعة الإخوان المسلمين.
المعادلة الرياضية الإخوانية غير قابلة للتحقق في حقل مثل الحقل السوري، فسوريا بالفعل، مختلفة عن مهد الجماعة – مصر، مع أن الأخيرة رفضت مبكّراً “أخونة” المسلمين السنّة، قبل أن يرفضها انقلاب عبد الفتاح السيسي العسكري على الحياة الديموقراطية التي أنتجتها ثورة 25 يناير والانتخابات من بعدها.
وإذا شئتَ أن تبتعد أكثر عن سوريا، نحو الشرق، فستجد أن تأثيرات التحويل المعاصر للإسلام إلى “حزب”، امتدت لتصل إلى إيران، وما الخمينية إلا تطبيق حرفي لنموذج الجماعة، وما الولي الفقية إلا مرشداً ولكن من مذهب آخر ومن طائفة أخرى، وهكذا الحال مع حزب الله والحوثي وبقية الهياكل المشابهة. مع أن النموذج الأصلي قادمٌ من هناك أصلاً ولكن في عصور ماضية، على مستوى هندسة التنظيم وبنيته المغلقة. فالإخوان خارج التنظيم، تجدهم كفاءات عالية وشخصيات دمثة ومُضحية قدّمت الكثير، وقد جمعتنا بهم صداقات عميقة، لكن المشكلة تظهر ما أن يبدأ تأثير الخلل في التنظيم على السلوك السياسي. وقد سبق لي أن أشرت إلى ذلك عند الحديث عن “الحادثة التي جرت بين سيد قطب وشقيقه محمد قطب، فقد كان الأخير يسأل أخاه محمداً حين يعود من الاجتماعات الإخوانية قائلاً: إزّي الحسن الصباح بتاعكم؟! مشيرا بتهكّمٍ إلى حسنٍ آخر عرفه التاريخ، هو الحسن الصباح مؤسس حركة الحشاشين الإسماعيلية في قلعة أًلموت في إيران، وكان حسن البنا من أشد المعجبين به وبقيادته”. (من مقالي “مصر تخلي سبيل الإخوان” – مجلة دمشق- العدد المزدوج 4-5 عام 2013).
لكن في وقتنا الحالي، أين ومتى يمكن أن تظهر مثل هذه المشكلة؟ الجواب دون تردّد؛ في السويداء، ومنذ انطلاق حراكها الشعبي السلمي طوال الشهور الماضية.
كيف ينعكس نموذج الجماعة في السويداء بكل مشكلاته عبر خيمة الشيخ حكمت الهجري الذي يحمل له أهل جبل العرب تقديراً كبيراً لانحيازه المتصاعد مع المتظاهرين ومطالباتهم المشروعة بالحرية والكرامة وموقفه المتجدّد ضد نظام الأسد، ولكن وفي الوقت ذاته، يرفضون أن تهيمن عليهم خيمة دينية وهم يأتون من ذهنية مدنية يسارية وليبرالية ذات طابع قومي عربي في غالبه؟
وحين تظهر انتقادات على شكل لافتات من قلب ساحة الكرامة تساوي بين ميليشيات الأسد والإخوان، لا يتنبه أولئك المنتقدون، إلى أنهم هم أنفسهم يعيدون اللعبة ذاتها، حين يكون على رأس حراكهم المدني “شيخ عقل” درزي.
لم يكن من المتوقّع تكريس الشيخ الهجري زعيماً سياسياً، وهو شيخ عقل، ولم يكن هذا أصلاً في بال أي من المنتفضين في السويداء، ولا في بال الشيخ نفسه، إلا أن البحث عن مظلّة راعية وزعامة اجتماعية جامعة لحراك عفوي، أمرٌ لا مفرّ منه في ظلّ التشرذم الاجتماعي السوري في كل أصقاع البلاد.
لا يمكن تجاوز الشيخ الهجري، ولا أحد يريد ذلك أساساً، وفي الحين ذاته، وإذ رفضت السويداء من قبل الخضوع للزعامات الإقطاعية ونظائرها، فهي اليوم لا تقبل بكل ما يندرج تحت ما تعنيه الزعامة الروحية، وسلسلة قيم هذه الزعامة لا تتطابق بالضرورة مع مطالب المتظاهرين بالمدنية والديموقراطية والمساواة والانتفاح وربما العلمانية وغيرها. وهكذا، وطالما أن الحال على ما هي عليه في سوريا بالعموم، وبوجود مثل هذه المعادلة، باتت ولادة إطار سياسي تمثيلي ينطق باسم السويداء عسيرةً جداً.
أخيراً، إن رفض الإخوان، بحسب قولهم، لتحكّم الأقليات بسوريا ومستقبلها، ومطالبتهم بدولة للجميع، يتناقضان كل التناقض مع تحويلهم المسلمين السنّة إلى “أقلية” أو “طائفة” ضمن المسلمين السنّة أنفسهم، وما دام الوضع هكذا، فكيف يمكن للمسلمين السنة التعبير عن أنفسهم، بوجود من يدّعي تمثيلهم ويختزلهم ويضغط حضورهم في “حزب”؟ ذلك التناقض شكّل ويشكّل حتى اللحظة، مُولِّداً للأزمات بين الجماعة وبقية السوريين، أزمات لم يعبّر الإخوان يوماً عن أدنى اهتمام بها، ولم يدرسوا كيفية حلّها لتذليل العقبات أمام التفاهم “الواجب الوجود” بينهم وبين مواطنيهم، بقدر ما شعروا أن ذلك ليس إلا عبئاً ثقيلاً عليهم، يحيلهم في تصوّراتهم إلى “ضحيّة” كلّ مرّة، ويزيد من أغياريّة الأغيار عندهم، ويكتّل الجماعة على نفسها، مضيّقاً قميص الأمّة أكثر والوطنية السورية أكثر.